تحت ضوء الشمس
صديقات عمر ممتد نحن، جمعتنا الغربة في بيت إحدانا في بوسطن، والتي أصرت أن تأخذنا لأحد أجمل الأماكن في المنطقة: مقبرة الأغنياء. فكرت، هل يمحو الموت الفرق بين الأغنياء والفقراء أم يعظمه؟ تقول المقبرة التي زرناها إن الموت أحن وأرحم بالأغنياء، أو لربما له وجه أجمل عندما يطل عليهم. انطلقت مع الفكرة والصديقات نتجول في أنحاء المقبرة الرائعة الجمال، والتي هي في الواقع حديقة غنّاء ضخمة مليئة بالبحيرات الصغيرة والطيور الجميلة والأشجار الخلابة. مبتعدين عن بقية الصحبة، وصلنا أنا وهي، تلك التي حنت بها الدنيا عليّ فربطت على قلبينا برباط محبة خاصة، عند ثلاثة أضرحة لعائلة كاملة: أب وأم وطفلتهما الصغيرة. أوقفنا فضولنا نحاول فهم كيف هاجم الفقد العائلة فشتتها ثم جمعها تحت الأرض، فتبين أن الأبوين فقدا الصغيرة أولاً عن أربع سنوات، ثم غادر الأب وكانت الأم آخر المنضمين لعائلتها تحت التراب. شيء ما أوجعنا في المشهد، إلى أن قلتها دون أن أعيها: يجب ألا يدفن أبوان طفلهما، هذا فقد ضد الطبيعة. أومأت رفيقتي بانكسار، فأدركت في لحظتها لم نقف هنا أنا وهي، واستحضرت الألم رقراقاً صافياً خلاباً. عرفت أن استحضاري أتى متأخراً وأنا أرى دموعها تموج في عينيها. ندمت حين لا ينفع الندم. ضممتها إلى قلبي وقلت آسفة، فضغطت على يدي وتركتني تلاحق خطواتها أمامها، تهرب مني ومن ألمنا المشترك، تهرب من القبر الصغير والفقد الحارق كأنه جرح طري مكشوف لم يمر عليه زمان. فار حزني بركاناً صغيراً يسكن أعماقاً لا يعرفها أحد، بين الفينة والأخرى ينفجر صارخاً، لا يسمعه سواي ولا يستشعر حرارتي سوى قلبي وعروقي وثنايا روحي. هي وأنا نمشي في روضة موت، نتذكر فقدنا. وعلى اختلاف حرقة التجربة وروعان تفاصيلها، إلا أنها تسكننا كنزيل مؤذ لا نود التخلص منه، لا نستطيع طرده، فهو، متمثلاً في الألم والعذاب والحرقة، كل ما بقي لنا مما ذهب، هو كل ما نملك مما لم نعد نملك، هو الذكرى وهو العقاب وهو الثواب. عدت اقتربت منها، اعتذرت مجدداً فهونت عليّ قائلة فقدنا واحد، قلت مع الفارق، تجربتك تتفوق في ألمها، في بعدها، في عمقها، لذا أنت أحق بدموعك اليوم وأنا أوجب بكتمان التي لي. تركتها تنغمر في حزنها، أعطيتها أولوية النشيج، فهي أحق بلا شك. كنت أعلم أنها لحظات تمر سريعاً تأتي محملة بدموع كأنها مطر رعد صارخ، تشرق بعدها الشمس لتعود بنا الى مرحنا المعتاد. وكنت أعلم أن غيومنا، وإن انقشعت برهة تحت ضوء الشمس، راقدة بأبديتها في القلب، تظهر بيضاء ناصعة محملة بألم صاف طاهر ينهمر علينا كلما سمعنا هدير رعد الذكريات.
في هذه البقعة من مقبرة أغنياء بوسطن، وقفنا أنا وهي، تظللنا شجرة، تمطرنا غيمة، يحنو علينا اخضرار الأرض اليانع. غرد لنا طير، فقررنا أنه رسول لنا، شبكنا أصابعنا وقررنا أن نكمل المسير، معاً.