لكل الثورات دراويشها! وثورة المهدي في السودان أواخر القرن التاسع عشر – وهي مدار الحكاية في رواية حمّور زيادة (شوق الدرويش) – ليست استثناءً. هكذا أفهم مغزى الرواية ومراميها، التي تكاد تكون إسقاطاً ذكياً على كل ما يُسمى بالثورات العربية في الوقت الراهن أو القريب في الزمن والظروف. والدرويش المعني في الرواية هو نسخة طبق الأصل للمواطن البسيط المستلب الأقرب إلى الفقر والجهل وقلة الشأن، المواطن الذي تلازمه الضعة ويناله الظلم والهوان، فيستسلم لهما كقدره ومصيره. هذا هو حال "بخيت" الدرويش – بطل الرواية - الذي اكتملت لديه صفات الرثاثة، وخضع للرقّ صغيراً وللسجن رجلاً. وحين جاءت ثورة المهدي، بأدبياتها التي تحضّ على الورع والامتثال للحدود والإيمان بمهدي الله وخليفته، وجدت في "بخيت" صيداً سهلاً لسجونها، كونه ضُبط في حالة سُكْر بيّن ذات ليلة حزن وهمّ.
وفي السجن كما في أزقة الخرطوم وأم درمان رأى "بخيت" وأمثاله من الدراويش الكثير من مشاهد الدماء والبطش، وعايش الحملات العسكرية والغزوات التي اتخذت من الدين والخلافة شعاراً، ومن الشدة والتطرف والغلو منهجاً. وهكذا تجرف الثورة المهدية أمثال "بخيت" من الدراويش، فيقف إزاءها في حالة من الارتباك وتذبذب اليقين، وتنتابه أحوال من التناقض بين التصديق بمهدي الله ورسالته، أو استنكار صنوف الظلم والاستبداد التي كانت ثمرة من ثمار ثورته. وتأتي أبشع صورة من صور هذه المظالم متمثلة بالبطش بالإرساليات المسيحية وأفرادها، الذين توزعوا بين القتل والأسر ثم الاسترقاق تحت مسمى ما ملكت اليمين. ومن هنا تتأسس الرواية على عمودها الآخر المهم، وهو تعلّق "بخيت" وعشقه "لثيودورا"، التي كانت تخدم الرب في إحدى كنائس أم درمان، ثم وقوعها فريسة للتعذيب والأسر والاسترقاق، وأخيراً القتل حين حاولت الهروب.وعليه، فالعنوان (شوق الدرويش) يحيل إلى شوق ذلك البائس المُعنّى (بخيت) وعشقه "لثيودورا" أو "حواء"، كما سُميت بعد أسرها وإرغامها على اعتناق الإسلام. وهكذا تأتي ثيمة العشق كمرتكز أساسي تتفرع منه الأحداث، وتنمو من خلاله شخصية "بخيت". "فبخيت" ليس مجرد سجين وعاملا من عمّال السخرة إبان الثورة المهدية وبعدها، إنما بدأت شخصيته تتشكل نحو آمادٍ أوسع حين صقله العشق، وحين امتلأت نفسه بالضغينة وحب الانتقام من قتلة "ثيودورا" ومعذبيها واحداً واحداً. وهكذا أصبح لبخيت ما يتحرق له ويصبو، وأصبح لحلّه وترحاله هدف تحركه النقمة وسَورة الحب المكلوم أو كليهما. ثم تتناثر أحداث الرواية وتتقاطع حول كيفية اقتناص "بخيت" لخصومه، والتنكيل بهم واحداً واحداً دون رحمة. ولعل المتأمل لأفعال الانتقام ورحلات البحث عن الخصوم، والتي احتلت جل مساحة الرواية، يستطيع بسهولة أن يدرك حجم الدمار النفسي والأخلاقي الذي تفرزه أمثلة هذه الثورات، التي ظاهرها إقامة شرع الله بالتسلط والغلو، وباطنها خراب النفوس وفساد الأرواح وإراقة الدماء. إن رواية مثل "شوق الدرويش"، بصفحاتها التي ناهزت الأربعمائة والستين صفحة، تحتاج إلى قارئ صبور ومتيقظ، ليس بسبب طولها وصعوبتها فقط، إنما لاحتشادها بما يشبه التكرار والإعادات في المشاهد والسرد، ناهيك عن تقاطع أزمنة الأحداث بين الاسترجاع للماضي والعودة للحاضر، أو تراسل الذكريات اللانهائي الذي يحتاج إلى درجة من التيقظ لدى القارئ، لئلا يضيع منه خيط الحكاية. إن الاتكاء على التاريخ القريب والبعيد بات بلا شك من التقنيات الروائية الناجحة والصالحة لمحاكمة العصر، بل والتناصّ مع أحداثه ومتشابهاته من الظروف. واختيار الروائي حمّور زيادة لمثال الثورة المهدية وإفرازاتها السياسية والاجتماعية كان موفقاً، وكان أيضاً ملائماً للتماس مع ما يحدث راهناً من طروحات التطرف الديني بشتى طوائفه وأطيافه.
توابل - ثقافات
شوق الدرويش
18-04-2017