ما الذي دفعك إلى تأليف كتاب «البنية الأسلوبية في شعر أنسي الحاج ويوسف الخال وعبد الوهاب البياتي»؟

الكتاب في الأصل أطروحتي في الدكتوراه، واخترت البنية الأسلوبيّة محوراً له لما يكتسي هذا الموضوع من أهمّيّة انطلاقاً من تحديد مفهوم «الأسلوبيّة» التي تحوّلت مع بداية القرن العشرين، وبفضل معادلات دو سوسير، إلى منهج علميّ قائم بذاته، يتكفّل بالكشف عن الملامح المميّزة في الخطاب الأدبيّ، ويرصد الطريقة التي يستخدمها الشاعر في التعبير عن موقفه وجوهره وملامح فكره، وفي الإبانة عن شخصيّته الأدبيّة المتميّزة عن سواها لا سيّما في اختيار المفردات وصوغ التراكيب والتضمينات.

Ad

ما أبرز الخصائص التي يتميز بها شعر كل واحد منهم؟

لفتني أنّ أنسي الحاج ويوسف الخال وعبد الوهاب البياتي، من الشعراء الذّين كان لهم كبير الأثر في تشكيل ملامح الحداثة الشعريّة، رؤيةً وفنّاً، فقد انتقلت معهم القصيدة من إطار الموضوع الواحد المحدّد الذي يحكم النصَّ في الحياة، ليصبحَ نصُّ الحياة هو الذي يحكم الموضوعات كلّها، ولتتحوّل الكلمة الشعريّة، معهم وعندهم، إلى أداة قتال وكفاح ودفاع وصمود...

أمّا في ما يتعلّق بأبرز الخصائص التي تُميّز كلّاً منهم فسأكتفي بعرض تلك المتعلّقة بالمستوى الإيقاعيّ وحسب، وذلك بهدف الإيجاز. لقد تبدّى لي، انطلاقاً من دراسة هذا المستوى، خروج أنسي الحاج عن الموروث وابتعاده من البحور الخليليّة الكلاسيكيّة وإسقاطه اللبنة المكوّنة للشعر، التفعيلة، خلال مراحله الشعريّة كافّة. أمّا يوسف الخال فوجدت لديه تفاعلاً واضحاً مع العروض الخليليّ، حيث إنّه التزم في بداياته بالأوزان الخليليّة حيناً، وسعى إلى تطعيمها ببعض إرهاصات الخروج عن الكلاسيكيّة حيناً آخر، وتحوّل في مرحلة لاحقة إلى الاكتفاء بالتفعيلة كوحدة عروضيّة مركزيّة في بناء شعره، وانتهى إلى القطع في بعض القصائد مع العروض الخليليّ قطعاً تامّاً، وإلى كتابة القصيدة بالنثر التي تتخلّى كلّيّاً عن التفعيلة.

كذلك، أكّدت هذه الدراسة التزام البيّاتي بالبحور الخليليّة في بداياته، وتفلّته من نُظُمها المقيِّدة في مرحلته اللاحقة، والسعي إلى تكييفها بإجراء تعديلات عليها، إذ سعى إلى تداخل البحور في ما بينها وإلى الإفادة من مبدإ التدوير، وإلى استحداث أشكال جديدة من البحور. كذلك عمل على المزج بين الكلاسيكيّة والشعر الحرّ والشعر بالنثر في القصيدة الواحدة، وصولاً إلى مرحلته الشعريّة الأخيرة التي التزم فيها كتابة القصيدة بالنثر التي تتفلّت من كلّ قيد.

أي شخصية انتهجتها خلال وضع هذا الكتاب؟ الأديبة، الباحثة، المحللة أم الناقدة؟ وكيف يمكن تحليل اللغة الشعرية عند هذا الشاعر أو ذاك من دون أن يفقدها نبضها بالمشاعر والأحاسيس؟

فعليّاً لا يمكن الفصل بين النقد والتحليل ولكن يمكنني القول إنّني انتهجت شخصيّة الناقدة، ذلك لأنّني اعتمدت على منهج صارم، وموضوعيّ، يدرس النصَّ الأدبيَّ دراسة علميّة، بعيداً من الانطباعيّة أو الاستنسابيّة في إطلاق الأحكام. إلّا أنّ النقد يعتمد في مرحلة من مراحله على ذاتيّة التحليل وعلى عمليّةٍ انتقائيّة للظواهر، لا سيّما حين يُعتمد المنهج الأسلوبيّ الذي يتتبّع بصمات الشحن في الخطاب، ويرتكز تالياً على الظواهر التي تثير القارئ وتوتّره وتخرق المألوف وتكسر المتوقّع. وقد عرّف بيار غيرو الأسلوبيّة بأنّها «مجموعة ألوان يصطبغ بها الخطاب ليصل بفضلها إلى إقناع القارئ وإمتاعه وشدّ انتباهه وإثارة خياله». أمّا فلوبير فعدّ الأسلوبيّة سهماً يرافق الفكرة ويخزّ المتلقّي. وبذلك، كان ثمة اعتماد واضح في هذه الدراسة على ما يُحدث صدمة، ويحاكي الجانب العاطفيّ، ويصيب مكامن الحساسيّة المتأثّرة عند المتلقّي.

دلالات وتحولات

ما أبرز الدلالات التي استخلصتها من خلال دراسة نتاج ثلاثة من كبار الشعراء في العالم العربي؟

خلص هذا الكتاب إلى أنّ نصّ الحاج يتضمّن كثيراً من التقديم والتأخير والحذف وخرق الأصول التركيبيّة، ويخلو من الربط بين المقاطع... وهي أمور تشكّل دليلاً على غموض الشاعر، وعدم سعيه إلى إضاءة نصّه وجعله قريباً من الأذهان عبر الإقناع والإفهام والتسلسل... أمّا استرسال الخال والبيّاتي في العطف، فكان كفيلاً بتفجير معانيهما مباشرةً في ذهن المتلقّي، من خلال علاقة لغويّة منسجمة ومتماسكة، ما يعكس الشفافيّة والوضوح في معانيهما، والتسلسلَ والترابط في أفكارهما. أمّا معجم الحاج فتميّز بعدم التآلف بين مفرداته، وفي إقامة نسق جديد من العلاقات، قوامه التخريب والمفاجأة. وتميّز الخال بغرفه من منهل التراث الإنسانيّ وذلك للانتقال به من الجمود والانكماش إلى الشراكة والانفتاح. وقام معجم البيّاتي على الحيرة والقلق. وبذلك، التقى الشعراء الثلاثة في قدرتهم على الإيحاء، وعلى انتقاء الكلمات الأكثر قدرة على إيصال الأفكار، إنّما تميّز كلٌّ منهم بفرادته لغةً وفكراً وصوراً وتركيباً، معبّراً كلٌّ منهم عن رؤيةٍ شعريّة خاصّة به.

إلى أي مدى استطاع هؤلاء الشعراء التعبير عن ذواتهم وعن محيطهم الاجتماعي والتأثير بهذا المحيط؟

عمدت في كتابي هذا إلى رصد أبعاد التحوّلات في نصّ الشعراء الثلاثة، انطلاقاً من الخصائص الأسلوبيّة اللّافتة والبنية الكلّيّة التي أظهرت لنا أبعاداً واقعيّة وسرّياليّة وروحيّة، نهلوا منها وتأثّروا بها فشكّلت مُنطلق بنيتهم الأسلوبيّة، ومحورَ رؤيتهم إلى ذواتهم وإلى العالم. كما خلص هذا الكتاب إلى أنّ الحاج يحرص على صوغ الأسطورة مغايرة للإخراج الذي وردت فيه، وإلى إضافة تفاصيل وحذف عناصر وذلك لتكثيف الإحساس باللعنة والتمرّد على الواقع. أمّا الخال والبيّاتي فيلجآن إلى التراث ليستقيا منه ما يساهم في إنارة نظرتهما إلى الحياة. وبذلك ظهرت رؤية هؤلاء الشعراء التمرّديّة حيناً والصافية حيناً آخر، الداعية إلى الثورة بالدم حيناً والداعية إلى الثورة بالحبر حيناً آخر، المتأمّلة بالخلاص بفعل الوعي حيناً والفاقدة أيّ أمل بالخلاص بسبب توسّع بقعة الفساد حيناً آخر... ولا شكّ في أنهم استطاعوا، من خلال رؤيتهم إلى ذواتهم وإلى العالم، المساهمة في محاولة بناء النفوس وفي إحداث تغيير فيها أو على الأقلّ عملوا على تحفيزها لتبنّي مواقف وتكوين قناعات تجاه كثير من القضايا الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الدينيّة المتنوّعة، ولكن يبقى السؤال: هل نجحوا في ذلك؟

«عزفٌ على مرآة الحياة»

صدرت لك حديثاً مجموعة أقاصيص بعنوان «عزفٌ على مرآة الحياة»، فإلى أي مدى هذا العزف تأثر بشخصيتك كامرأة تتناول قضايا حياتية؟

يشمل هذا الكتاب موضوعات إنسانيّة، شموليّة، ولا يلتزم بقضايا المرأة بشكلٍ خاصّ، ولا ينطلق تالياً من رؤية نسويّة للأمور، والدليل على ذلك يتمظهر في الأقصوصة الأولى حين سمحتُ للمرأة بالوقوف أمام المرآة وباستعراض شريط حياتها المأسويّ، وأعطيت بعد ذلك مباشرة الدور للرجل الذي تدخّل وطلب منها التنحّي جانباً لأنّ دوره في الوقوف إزاء المرآة قد حان. وأشير في هذا الإطار إلى أنّ الوصف في الأقاصيص بمجملها تركّز على مشاعر الرجل والمرأة من دون تمييز يُذكر، وذلك في مواقف حياتيّة شتّى. فالمنطلق هو الإنسان، والهمّ الإنسانيّ، والشجن والمشاكل والصعوبات والتحدّيات والمواقف التي يتعرّض لها كلّ إنسان، بوصفه إنساناً، وبمعزلٍ عن جنسه. أمّا «المرأة- الكاتبة» فلا شكّ في أنّها كانت حاضرة في كلّ مكان في الكتاب، إلّا أنّها بقيت غير مرئيّة في أيّ مكان.

«همسُ المرآة، شارع عبد الوهّاب، دورةُ الحياة، خِصبٌ في القلب، رحلةٌ في الوهم»... هذه الأقاصيص التي يضمها الكتاب، هل تركز على الخاص في التجارب أم العام منها، بمعنى هل توثق لتجربة مجتمع أم تنهل من معين التجارب الفردية؟

هي مزيجٌ من تجاربَ حياتيّة متخيَّلة حيناً، ومَعيشة على الصعيد العامّ حيناً آخر. ولكنّني لا أتناولها بتفاصيلها وبصدقيّتها بل أعالجها من زاوية معيّنة ومن منظور مخالف للواقع أحياناً، أي أنطلق من نقطة أو من موقف مبتكر أو مصطنع أو مستحدث، وأذهب به بعيداً إلى حيث تفرض التجربة التي تحياها كلّ شخصيّة.

إلى من تتوجهين في مجموعتك القصصية؟

كتبت هذه الأقاصيص لمجرّد الكتابة. لم يكن هدفي التوجّه إلى فئة معيّنة، ولم أعمد إلى صوغها بشكل يتوافق وحاجات أو متطلّبات شريحة محدّدة من جمهور القرّاء. إلّا أنّها حملت في طيّاتها رسالة إنسانيّة وأبعاداً فكريّة واجتماعيّة، لذلك، اعتُمدت في بعض المدارس، للصفّ التاسع، فأضفتُ إليها استثماراً تربويّاً كي يَفيد منها التلميذ في تحقيق الكفايات المطلوبة منه في هذه المرحلة.

باحثة وجديد

عندما تكتبين القصة هل تضعين جانباً شخصيتك كباحثة أكاديمية وتركزين على شخصية الأديبة، أم تتلازم الشخصيتان بحيث لا تنفصلان؟

هي إشكاليّة مطروحة في المشهد الثقافيّ اليوم، ما يجعلنا نتساءل: هل الناقد المميّز هو بالضرورة مبدع مميّز؟ وتالياً هل المبدع الذي يتمتّع بخلفيّة ثقافيّة نقديّة سيكون حكماً أفضل من سواه؟ من جهتي، لا أرى ارتباطاً وثيقاً وضروريّاً بين الاثنين، قد يجتمعان في شخص واحد ولكنّهما لن يكونا سبباً لتميّزه، وحدها الموهبة هي الكفيلة بتميّز المبدع وبالحكم عليه. وأظنّ أنّ اللحظة الإبداعيّة والفكرة التي تنزل على المبدع كالوحي تتفلّت من كلّ قيد وتجعله يحلّق في فضائها من دون أجنحة، إلّا أنّ صقل التجربة سيحتاج منه إلى الاستعانة بأجنحة النقد كي يحقّق التكامل في عمله الأدبيّ.

ما الجديد الذي تعملين عليه راهناً؟

أحضّر مجموعة قصصيّة جديدة ولكنّها ما زالت أفكاراً متفرّقة ستحتاج إلى بعض الوقت كي تبصر النور، ولديّ مجموعة من الكتب النقديّة تعتمد مناهج متنوّعة في مقاربة النصوص الأدبيّة وتحليلها، وقد تصدر قريباً جدّاً.

المرأة الأديبة

كيف تقيم الأديبة والباحثة اللبنانية د. مهى الخوري نصار المرأة الأديبة الشابة في العالم العربي اليوم، وهل تختلف المعايير في الكتابة الأدبية اليوم عما كانت عليه في السابق؟ تجيب: «لكلّ زمن مبدعوه وأسماؤه التي تطبع تاريخه، والوفرة في الإنتاج دليل صحّة وعافية ومؤشّر نشاط في الحركة الثقافيّة في كلّ زمان ومكان».

تتابع: «لا أرى فرقاً بين الأديب والأديبة في هذا الإطار، ولكن لا شكّ في أنّنا نلحظ وفرة في النتاجات الأدبيّة في عالمنا العربيّ ويبقى الزمن كفيلاً بغربلة الأسماء وتنقيتها، وطبعاً لن يصمد إلّا من سيترك أثراً في حياة قرّائه، رجلاً كان أو أنثى».