لا يوجد مجتمع في العالم ينحدر جميع مواطنيه من أصل واحد وينتمون إلى مذهب واحد، وجميعهم من لون واحد ولهجة واحدة، والمجتمعات المتطورة تبذل جهوداً مضنية في سبيل تحقيق الاندماج الوطني للمكونات الاجتماعية والثقافية المختلفة في هوية وطنية جامعة أساسها المواطنة الدستورية المتساوية في الحقوق والواجبات، وذلك لأن التنوع والتعدد والاختلاف الإثني والثقافي، مثلما ذكرنا مراراً، هي مصادر ثراء وغنى ومدعاة للفخر والاعتزاز وليست عوامل فرقة وتشرذم وانقسام اجتماعي. أما التمايز والتنافس بين المواطنين في الدول المتقدمة فيكونان بناء على المؤهلات العلمية، والكفاءة المهنية، والمهارات المكتسبة، والقدرة على الإبداع والابتكار، والمساهمة الفعالة والمستمرة في الشأن العام من خلال قنوات المشاركة الديمقراطية في صنع السياسات واتخاذ القرارات العامة.
لذلك تتجدد المنظومة السياسية باستمرار في هذه الدول وتواجه مشاكلها العامة بنجاح، ثم تخطو خطوات واثقة للأمام، في حين يحصل العكس تماماً في الدول المتخلفة، حيث تنكفئ «الدولة» على نفسها وتتآكل داخلياً شيئاً فشيئاً إلى أن تصل إلى مرحلة الفشل التام، وتهديد السِلم والأمن الاجتماعيين مثلما حصل، على سبيل المثال لا الحصر، في الصومال.بعبارات أخرى، المجتمع المنقسم عمودياً (قبلياً وطائفياً وعنصرياً) لا يمكن أن يتطور ويتقدم للأمام، لأنه، وبكل بساطة، يأكل من «لحمه الحيّ»، إن جاز التعبير، ويتفتت داخلياً، ثم يتآكل تدريجياً إلى أن يصل إلى مرحلة الاحتراب الداخلي سواء المباشر، أي الحرب الأهلية، أو الخفي، وذلك عندما يتحول المجتمع إلى ما يشبه «الجزر المعزولة»، فتجد المواطنين منقسمين إلى «مجتمعات» متعددة ومتنافرة في الدولة الواحدة يكره كل منهم الآخر وينظر له بعين الريبة والشك. لهذا تولي الدولة المتقدمة مسألة الاندماج الوطني، وقضية المواطنة الدستورية المتساوية أهمية قصوى، وتضعهما حكوماتها في مقدمة أولوياتها، فتقوم، مثلاً، بحظر خطاب الكراهية العنصري والطائفي ومعاقبة مروّجيه لأنه يهدد بشكل مباشر أمن المجتمع واستقراره، فضلاً عن أن الحكومات الجيدة تضع سياسات عامة ترسخ مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، وتشجع على الاندماج الوطني، وتُعلي من شأن المواطنة الدستورية المتساوية. هل يعني ذلك أنه لا يوجد صراع في الدول المتقدمة؟ بلى بالطبع، فالصراع موجود دائماً وأبداً في المجتمعات كافة وإلا لما تقدمت البشرية، ولكن هنالك فرق شاسع بين الصراع الأفقي القائم على أساس المصالح الطبقية، والصراع العمودي المُضر اجتماعياً وسياسياً.
مقالات
عن أهمية الاندماج الوطني
19-04-2017