هل تضيف الجوائز إلى الأديب، لا سيما عندما تكون الجائزة صادرة عن مؤسسة خاصة؟

أعتقد أن أفضل ما تفعله معنا الجوائز أنها تعرف القراء إلينا، وتعرفنا نحن بدورنا إلى كتّابنا المفضلين. تُقرأ الأعمال الفائزة بجوائز على نطاق أوسع، و«البوكر» العربية مثلاً تهتم بالفائزين وبالدعاية لأعمالهم وترجمتها. ووفقاً لمعيار مصداقية الجوائز وقيمتها المادية وقدرتها على الدعاية لنفسها، يكون معدل الاهتمام بها. ولكنها تظلّ الجانب التجاري من القضية، فهي ليست مقياساً لقيمة العمل. صحيح أن وجودها أمر مهم وضروري، لكنها لا تخدم الكاتب نفسه بل فكرته، فتفيد كتابه لا قلمه، محققةً له الرواج، وواضعة إياه في نطاق المواجهة مع القراء، إذ تحمل لهم الرسالة بيسر. لكنها، رغم ذلك كله، لا تمنح الكاتب صك التصديق أو الهوية أو الاعتراف. باختصار، هي لا تصنع منه كاتباً، وإن صدّق الكاتب جوائزه سيموت، بل ينبغي عليه أن يصدق همه الشخصي فحسب، وأفكاره ورؤيته، للإنسان وللأرض وللسماء.

Ad

يعتبر البعض جوائز الدولة «التحاقاً بالحظيرة»، فيما يراها آخرون جوائز مستحقة. ما رأيك؟

سبق أن حصدت جائزة الدولة بالذات، كذلك شاركت في لجان تحكيمها، وأعرف مقدار حياديتها ونزاهتها عن تجربة، والدولة لا تتدخل مطلقاً في أعمالها، ولا أظنّ أن ثمة مثقفاً في لجانها سيقبل بذلك. عموماً، براعة لجان تحكيم الجوائز في اختيارها، وليس في قرارها. يجب عليها أن تكون «جامعة ومانعة» (بحسب لغة المعاجم)، بمعنى أن تضمّ أطيافاً متذوقة وناقدة ومتعاملة مع الإبداع القصصي، بكل صوره: فيها من يقبل التجريب، ومن يحترم الكلاسيكية، والخبير الكبير سناً، والشاب القادر على توليد الجديد من الأفكار، وفيها من ينظر إلى النص من هذه الزاوية، ومن ينظر إليه من الزاوية الأخرى. هكذا تكون جامعة. أما أن تكون مانعة، فأعني أنها لا تضمّ الدخلاء الواقفين على البر، أو ممن لم يعتركوا مع النص بصورة حقيقية في ساحة الكتابة.

قضية وذاكرة

يدور معظم أعمالك الأدبية كـ«صياد الملائكة» في أجواء قبطية. هل يأتي ذلك بسبب تأثرك بهذا المناخ أم أنك حريص على واقعية الحوادث التي عايشتها؟

لا أستطيع أن أكتب عما لم أعشه أو أحس به، ولكن تدور أجواء رواياتي كافة في نطاق مصري في الأساس. أرفض وصفها بـ«القبطية». تحدث رواياتي وقصصي في أجواء إنسانية، ولا أعرف ما الأمر الغريب الذي يدفع البعض إلى مثل هذا التصنيف. عموماً، الرواية بالنسبة إليّ مشروع فكري وسؤال وجودي. ومن المفترض أن يتحقّق ذلك في كل عمل فني على اختلاف أنواعه، وفي الرواية لا بد من أن يترك الكاتب شيئاً من نفسه حتى إن كانت قصتها بعيدة عنه.

تدور «صياد الملائكة» حول علاقة شاب مسيحي بفتاة مسلمة منتقبة. ألا ترى أن دخول هذه المنطقة محفوف بالمخاطر؟

من دخل إلى تلك المنطقة المحظورة أولاً؟ روايتي أم الواقع المعاش فعلاً؟ ولماذا هي محظورة أصلاً؟ تطالعنا الصحف يومياً بانفجارات كارثية بسبب قضية مشابهة. إنه أمر موجود، وهذه المشكلة قائمة، ودفن رؤوسنا في الرمال لن يجدي نفعاً. اتصل بي الكاتب الكبير بهاء طاهر بعد وقوع حوادث قرية الكرم المتعلقة بالسيدة المسنة التي جردوها من ملابسها وسحلوها في الشارع، لأن ابنها المسيحي كان على علاقة بفتاة مسلمة. إنه أمر فظيع في الحقيقة وغير إنساني، لدرجة أنه استدعى تدخل رئيس الجمهورية الذي قدم اعتذاراً لها في أحد خطاباته. قال لي طاهر إن روايتي كأنما تنبأت بذلك، وذكر أنها بمثابة ناقوس إنذار. فعلاً، المشكلات التافهة ستحرق الوطن إذا لم نعالجها بوضوح وصراحة من دون خوف أو صمت أو شعارات كاذبة، وهذه واحدة من وظائف الرواية .

هل يكفي أن تكتب رواية جيدة ليعرف العالم بقضيتك أم تسلط ضوءاً خافتاً نحو مشكلة حقيقية؟

لا يحتاج العالم إلى الروايات ليعرف. الأمور كافة متاحة الآن ربما أكثر مما ينبغي. ولكن الرواية فن الذاكرة، ووثيقة تديننا أمام الأجيال المقبلة. كم عمل فني من رواية وفيلم روائي أو وثائقي أنتج عن الحرب العالمية الثانية؟! من هذه الأعمال كافة صنعت ألمانيا نهضتها، وشكّلت أوروبا كيانها. تصنع الروايات حضارة من العدم، وهي ليست أداة لتقديم المعلومات بالمعنى البسيط، إنما هي فن تثبيت الذاكرة وإعادة هيكلة الحياة ورسم خريطة جديدة للوجود.

مجتمع وتصنيف

هل تقصدت أن تقدّم في روايتك «صياد الملائكة» تشريحاً وفضحاً للمجتمع العنصري؟

كنت أقدِّم تشريحاً للعبث. كنت أثقب الغلاف الكاتم على صدورنا حتى يمكننا أن نتنفس جميعاً هواء نقياً. كنت أرصد الشيزوفرينيا المجتمعية المتفشية واستغلال الدين الجميل أسوأ استغلال. كنت أنتصر لقيمة الإنسان بصرف النظر عمن يكون، ولعلي أكون نجحت.

ألا تخشى تصنيفك كاتباً قبطياً؟

ما معنى كاتب قبطي من الأصل؟ نطلق الأكاذيب ونرددها حتى نصدقها في النهاية. لا وجود لمصطلح «كاتب قبطي» من الأساس. ما الذي يعنيه بالضبط؟ ربما هذا أيضاً أحد الأمور التي يجب أن نزيحها عنا لننهض. ما دام القارئ لم ير في نصّي إلا تلك الأجواء التي لم يحاول التعرف إليها أو الاهتمام بها، فنحن بصدق في مشكلة كبيرة. ليس ذنبي أن الآخر يجهلني ولا حتى يريد أن يعرفني. هل أتوقع يوماً أن نصف أعمال نجيب محفوظ، أو عبد الحكيم قاسم، أو حتى روايات إبراهيم عيسى، مثلاً بالأدب الإسلامي. إنها هشاشة التلقي التي نعانيها في أوطاننا.

خارج «القصة والرواية»

تنتمي القصة كما الرواية إلى الإبداع السردي وتختلفان في البناء. في أي منهما يرى هدرا جرجس نفسه؟ يجيب: «لا أملك رفاهية الاختيار. ما يختاره النص أثناء الكتابة أنا معه حتى النهاية، حتى لو كان تصنيفه خارج «القصة والرواية» معاً».