بينما تتواصل المعارك الضارية في الجزء الغربي من مدينة الموصل العراقية لطرد مسلحي "داعش"، يشهد الجانب الشرقي منها، وخصوصاً المناطق البعيدة قليلاً عن ضفة نهر دجلة، عودة ملحوظة للحياة ومباهجها وتجارتها، حتى إن تجاراً مسيحيين وأكراداً بدأوا العمل ثانية في المدينة، وارتفعت بدلات الإيجار للمباني، في إشارة إلى استئناف دورة الاقتصاد في هذه البقعة التي كانت تعد، عبر التاريخ، محطة واصلة بين مختلف طرق التجارة الدولية، على حدود الشام وتركيا وبلاد فارس المتاخمة.

لكن ذلك لا يعني نهاية أكيدة للعنف الممنهج، لأن الثقة بين الأهالي والحكومة لم تصل إلى صيغة استقرار بعد. وتذكر مصادر أمنية من داخل الموصل أن استخبارات الجيش تخشى "تحضيرات" لتمرد مسلح جديد داخل المناطق التي حررت من "داعش" قبل بضعة أشهر، إذ تتكتم الحكومة على "اغتيالات يومية" تلحق المتعاونين مع أجهزة الأمن، وأنشطة مالية تثير الريبة، واتصالات يقال إنها تبعث على القلق.

Ad

ولم ينجح الساسة العراقيون في استعادة ثقة الأهالي بنحو كافٍ، فالانقسام الشيعي الحاد بين النجف وطهران جعل هؤلاء يترددون ويتأخرون كثيراً في وضع مبادرة معقولة لإقناع المجتمع السني بأن أخطاء حقبة رئيس الحكومة السابق نوري المالكي وقمعها واعتقالاتها لن تعود.

ورغم كل ما يتمتع به رئيس الحكومة الحالي حيدر العبادي من مرونة فإنه لم يستطع القيام بخطوة كبيرة مع المكون السني، ويمكن وصف ما قام به بأنه تخفيف طموح لأخطاء حقبة المالكي كثيراً ما تلكأ وتراجع.

ولا تقتصر المشكلة على الطبقة السياسية الشيعية، بل تواجه نظيرتها السنية انقساماً دراماتيكياً جعل الجمهور في الموصل، والأنبار خصوصاً، لا يقدر قياداته ولا يتواصل مع مبادراتها، رغم عدم ظهور بديل سياسي واضح.

واضطر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس، مطلع الشهر الجاري، إلى أن يتسلم مبادرتين سنيتين للتصالح نتيجة هذا الانقسام، إذ عجز ممثلو الموصل والأنبار عن توحيد مطالبهم في ورقة واحدة.

وبينما جاءت إحدى الورقتين "باهتة نسبياً"، وتراعي الجناح الإيراني في سياسة العراق، جاءت الأخرى، التي سلمها نائب رئيس الجمهورية أسامة النجيفي، زاخرة ببنود "تصدم" الجمهور الشيعي، إذ طالبت بإطلاق سراح الجنرال سلطان هاشم، وزير دفاع صدام حسين، وعدد آخر من كبار الضباط، وتجميد أحكام الإعدام عامين، وإخراج فوري للفصائل الشيعية المسلحة من مناطق السنة، فضلاً عن إعلان أقاليم سنية تتمتع بنوع من الحكم الذاتي.

ويقول حلفاء النجيفي إن هذه الإجراءات الموصوفة بـ"الصادمة" هي السبيل الوحيدة التي تقنع المجتمع السني بأن مرحلة ما بعد "داعش" ستكون مختلفة، وتمثل عهداً جديداً، أو "تأسيساً جديداً" للنظام العراقي، لقطع الطريق على عودة التمرد المسلح الذي يغذيه التطرف عند السنة والشيعة والعناد السياسي في طهران وبغداد.

وأدت الخلافات إلى إبعاد شخصيات أنبارية وموصلية قوية عن المراكز التنفيذية في مدنهم، وتركت وراءها إدارات محلية ضعيفة تثير سخرية الأهالي، ما يجعل محللي الاستخبارات يأخذون على محمل الجد احتمالات عودة التمرد، نتيجة غياب إطار سياسي يوظف مكاسب الانتصار العسكري على "داعش"، بنحو ينتج استقراراً اجتماعياً وثقة بالنظام القائم.

وتعتقد مصادر شيعية أن التصالح وبناء الثقة يصبحان أصعب، يوماً بعد آخر، لاقتراب الحملات الانتخابية في العراق، وما يكتنفها من "تسخين" استثنائي هذه المرة، بسبب اشتداد الصراع بين "أفندية الشيعة" وعساكر الميليشيات الطامحين لدور جديد، والذين لن يتوانوا عن استغلال أي تنازل شيعي للسنة، في تجييش الجمهور ضد الطبقة السياسية التقليدية في النجف وبغداد، إلى درجة أن "العقلاء" يخشون "انقلاب المجانين المسلحين"، عند تصاعد الصراع السياسي، حيث لا يختفي خطر "داعش" شمالاً، ويطل خطر الميليشيات برأسه جنوباً بوعيد وتهديد ضد "الساسة الفاسدين".