"أقدرك... اخرس... أعشقك" صدقا للكلمة قوة، فرُب كلمة كفرية تخلد صاحبها في جهنم، ورب كلمة تعبدية تخلده في فراديس الخلد أبداً، من منا لا يحترم الناطق بالفضيلة؟ ومن يتحمل النافث بالشتيمة؟ كان الصحابة رضوان الله عليهم ينتقون الكلمات والحروف في كل الظروف، كقول عمر الفاروق لمن أوقدوا النار في الصحراء: "يا أهل الضوء" بدلاً من "يا أهل النار".إنه ليؤسفني أن توجد في ثقافتنا الشعبية فكرة ترجيح هيبة الصمت على تقديم النصيحة، ويزعجني اعتماد المدح والثناء على أنهما من مداهنات المنافقين، حتى أهان الكثير عظمة الكلمة، فقالوا نريد الفعّال ونرفض القوّال ونسوا أن العمل الصالح هو الكلمة الطيبة والفعل الصحيح، كما نسوا أن عِلة الثناء لله هي طبيعة ميل النفس لمن تمجد، فإن كررنا التسبيح، انساقت أنفسنا للانتهاء عما نهى الله عنه وقمنا بما أمر به بلا هوادة.
وبمناسبة وجود تلك المفاهيم الموروثة العربية، المغايرة لتربيتنا الإسلامية، عزمت على إثبات خرافة هوان قوة الكلمة، التي بها تشتعل الثورة وتكتسب الثروة، وتُعتاد السعادة وتخيم التعاسة، وبالمثال يتضح المقال. معلم أعلن لطلابه: "في فصلي، الغائب درجته مخصومة وإن كانت أعذاره مقبولة، الويل للسائل وإن جهل المنهج، الثبور للمبتسم وإن كان يحبني، المَحق لمن يفصح باستنتاج، وإن كان موافقاً للكتاب، هيهات لمناقشي الموضوع وإن كانوا ممتازين"، ناقضه معلمي د. ماهر بن موسى الدائم لتشجيع الجميع، والذي تبنى أغرب طريقة تعليم بتاريخ جامعتنا! في كل محاضرة مدتها ساعتان، لمادة الرويات الإنكليزية التي تحتاج إلى شروح مفصلة قبل الاختبار النهائي المجهز البريطاني، يشرع في تجديد شكره لنا بمناسبة حضورنا، ثم يكرر كلمته الغريبة "إني لن أكتب أي شيءٍ من المنهج، فأنتم من تعلمونني، أريدكم أن تتفوهوا بأي كلمة تجدون لها علاقة بالدرس"، فيقول أولنا: "الاضطهاد السياسي"، فينطلق معلمنا ليكتب بنفسه هذه الكلمة على السبورة ويرسم عليها دائرة، وأقول أنا: "الإقناع غير المباشر"، وهكذا دواليك، حتى امتلاء السبورة بفقاعات فكرية من عقليات الطلبة أنفسهم، فيقول: "والآن ناقشوا بعضكم! وفرقعوا فقاعاتكم!".عزيزي القارئ، ماذا تتوقع من طلبة ممطرة قلوبهم بثناءات سخية من أستاذهم بالجامعة؟ كيف سيكون حماس طالب أصبحت أفكاره تتسلط عليها جميع الأضواء؟ انطلقنا بغزل خيوط المنهج بنسيج أدمغتنا بلا تردد! فكانت تساؤلاتنا لبعض كثيفة، أنتجت من قريحتنا أجوبة غزيرة، فحفظنا المفاهيم وفهمنا المواضيع بلا مراجعة! وما كان يقوم البروفيسور بشيء سوى توجيه نقاشنا إلى القصد المنهجي، فكانت نتائج اختباراتنا مشرفة، وواجباتنا محلولة، وكانت محاضرته متعة فاقت كرة القدم! لا غرابة في أمر نجاحنا، أولم يقل إلهنا الودود: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا"؟ ومن هذا المنبر، أشكر محرر "الجريدة" أ. حسن الغزاوي، الذي غرس بقلبي، كلمة طيبة، أصلها ثابت، تؤتي أكلها حين يشاء ربي، فجعلتني كاتباً أسبوعياً!فلنخفض إحصائيات الطلاق، ولنقلل نسبة الرسوب، ولنهدم مرافق الطب النفسي، بعبادة الكلمة الطيبة! فهل يكره طالب مادة فيها أستاذ يعطيه دفء الانتباه، ويقول: "أراك تمتلك فهماً سريعاً لتلك المعلومة واستيعاباً مميزاً لذاك المصطلح؟"، وهل الزوجة المتأففة ستطلب الطلاق من زوجها إذا اتقى ربه، وقال لها: "يا شمس فضاء روحي، شعشع وجهك بضلوعي نورا، أوقد حبيسه غراما موقودا"؟
مقالات - اضافات
الفائدة من الكلام
22-04-2017