هل هناك شيء مثل هوية خالصة، أو أمة متجانسة، أو وطن نقي؟ تتركنا التحولات المذهلة في كوكبنا الصغير أمام أسئلة كبرى تطول الخرافات التي نعتنقها منذ أمد طويل، ويغدو جليا التضاد بين الواقع المشخص وهذه الخرافات في ثنايا حياتنا اليومية. ولئن كانت الأزمنة الغابرة البطن الخصب لولادة هذه الخرافات فإن الانقلاب الكبير في عصر الحداثة مع ما صاحبه من تحطيم لحواجز المكان والزمان يحتمان علينا طرد هذه الخرافات والحيلولة دون أن تستوطن فينا وتكتسب في الوقت عينه عمرا جديدا.
وهنا لم تعد الممارسة الإنسانية أسيرة الحدود ومتلونة بالهويات، فالفن والأدب والغذاء وكرة القدم، جميعها عابرة للهويات والحدود المجتمعية، فالانتماء الكوني النابذ للهوية، بالمعنى الشعوري، يتجلى في ظواهر تدحض بحد ذاتها مبدأ الهوية مثل شغف الجماهير بالكلاسيكو الكوني بين ريال مدريد وبرشلونة، وجعل أفلام وأغان معولمة رمزا للعاطفة، وحتى استنساخ جوائز الكتب. وما سبق ليس في أي وجه من الوجوه تنكراً للتنظيمات الاجتماعية والدول بقدر ما هو تفكير في ما يرمي إليه معنى الهوية في زمن الحداثة، وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن الدول لا داعي لها، بل على النقيض من ذلك فإن التنظيم الاجتماعي على قدر كبير من الأهمية، ولكن المشكلة أن الخرافات ما زالت تستولي على الواقع وتحل محله. ولئن تلكأ البعض في مقاربات أخطار الهوية، فهو أيضا المسؤول عن انبثاق العدوانية والعنف من مفاهيم الهوية، ذاك أن التشبث المرضي بالهوية والمغالاة بجعلها صنواً للوجود الإنساني، يقذفان المرء لا محالة إلى جحيم الإقصاء والقسوة وكراهية الآخر، وفي هذا السياق بمقدورنا ملاحظة أن أشد الكيانات قسوة وبعدا عن المدنية هي تلك المتماهية بشدة مع ما تتخيله هويتها كالتنظيمات الدينية والأحزاب القومية. في حين أن التحرر من سطوة الهوية، يكسب المجتمعات طابعا إنسانيا ويجعل المرء أكثر قربا من آدميته، وآية ذلك أن الدول التي ليست على وفاق مع المجتمع الكوني هي الأشد قسوة في انتهاك حقوق الإنسان، في حين أن تلك التي تحظى بعلاقات حسنة مع المجتمع الكوني تكون أكثر رأفة وإنسانية، فالتحرر من خرافات الهوية والاندماج بالعالم سيخففان من القسوة ويزمان طباع العنف والتوحش التي ابتلينا فيها في مجتمعاتنا الأسطورية.
مقالات
خرافات الهوية
23-04-2017