اقلقوا تصحوا
يتساءل «نيستو ابيبي»، في مقال له بـ «نيويورك تايمز» (نشر في 18 أبريل) عن أسباب القلق المرضي في أميركا اليوم، الدولة الأميركية ليست في حرب أهلية ولا تعاني الكساد الكبير، كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، ولا تذوق ما ذاقته في أيام السبعينيات بكل أحداثها وتقلباتها، ومع ذلك هناك 18 في المئة يعانون القلق المرضي، كي يدفع عقار «زناكس» المضاد للقلق دواء بروزاك المضاد للاكتئاب جانباً ويحل محله... هو قلق اقتصادي، خشية من قادم مجهول، أيضاً هي تكنولوجيا جديدة تطرح نفسها كل يوم تحاصر الفرد وتهز ثبات يومه، حين يصبح من الضرورة ملاحقتها، هو وليد حملة ترامب الانتخابية قبل فترة ووعوده الانتخابية. أسباب كثيرة، لكنها تشترك في عامل الخشية من مستقبل أمور سيئة «قد» تحدث، و«قد» لا تحدث... فالقلق هنا وليد حرفَي «قد» الاحتمال.الفقراء لا يعانون القلق المالي، فهم لا يملكون المال بداية حتى تزج «قد» نفسها باحتمال تناقص المال أو ضياعه، هم يعانون الفقر وعذاباته وآلامه، لكن الطبقة الوسطى تقلق من أن تنزل درجةً من سُلّمها، كي تصبح طبقة على بلاطة «الدنيا»، وحين تستقر بالأسفل يرجح أن يتلاشى قلق الأمس، ما لم يكن هناك ما هو أسوأ من مستوى البلاطة قادماً بالطريق.ماذا عنا، هنا بالكويت وبالخليج؟ بالتأكيد، قلقنا (إذا كنا أصحاء ثقافياً نعي ونقلق أساساً)، لن يكون بنفس الأسباب لقلق 18 في المئة من سكان أقوى دولة بالعالم وأكثرها غطرسة، فقلقنا مرهون، من ناحية، بما تقرره هذه الدولة التي يكتب منها «نيستو ابيبي» في مصائر مستقبل دولنا، ومستقبل شعوبها. من ناحية أخرى، فالأيام الحلوة قبل 2014 كتاريخ بداية تدهور سعر النفط قد ولت لغير رجعة، ودولنا تحيا اليوم على مدخرات الأمس، وهذا بحد ذاته سبب مشروع للقلق. أيضاً قد تقلق الطبقة الوسطى لدينا من أسباب أخرى مرتبطة بعامل زمن ما بعد 2014.
مثلاً يكون القلق هنا أمراً طبيعياً، ما دام المواطن آخر الأمر لا يملك أمر يومه ومستقبله، الإدارة التي تزعم نفسها بـ«البخاصة»، أي معرفتها المطلقة بما هو أفضل لنا ولا تريد أن يشاركها الناس بقرار البخاصة، هي سبب كبير للقلق حين ندرك أنها لا تعرف «كوعها من بوعها» في إدارة الأزمات، على سبيل المثال، حين تقول وزيرة الشؤون، مرة، إن العلاج بمستشفى جابر بعوض مالي، ومرة أخرى تنفي وتصرح بأنه «ببلاش»! هذا بحد ذاته يقدم نموذجاً بسيطاً عن وضع البخاصة السياسية في حسم القرار، وإذا قسنا باقي الأمور في قضايا كبرى قادمة يصبح هذا التردد السياسي الإداري كارثياً.القلق الذي يمكن أيضاً أن يصاحبنا اليوم، يلخص في عبارة «راحت السكرة ولم تأت الفكرة»، فنهج الإدارة السياسية «مقلق» لأنها ببساطة غير قلقة، ومازالت تحيا وتدير الأمور وهي منتشية من سكرة الأمس، وكأنه لم يحدث شيء من عام 2014 حتى الآن، فهي تعطي بكرم لجماعات المقربين، وهي تترك أفراداً كوّنوا بلايين من التكسب من الوظيفة العامة على وضعهم المريح، دون مساءلة ومحاسبة، والنقد المستتر الحذر الذي ننشره بصورة غير مباشرة وخجولة في جرائدنا لم يعد مجدياً... أليست كلها أسباباً للقلق!أخطر ما هو مقلق اليوم، ليس عدم قلق الإدارة السياسية، ولكن سريان عدوى عدم القلق من أعلى للأسفل، من الإدارة إلى المحكومين، حين تصبح الطمأنينة والوثوق بالخواء سمة الحياة بصورة عامة، ونجد دعوات التفاؤل المخدرة تطلق فيروسات الخمول وعدم الاكتراث المرضية في الهواء المغبر الذي نتنفسه الآن. عدم القلق هنا هو ما يقلق.