صورة لها تاريخ : النجاشي... سُلب منه الحُكم وبِيع عبداً ثم عاد ملكاً
تحدثنا بشيء قليل من المعلومات في المقال السابق عن النجاشي، الذي سمح للصحابة بالاستقرار في الحبشة، ووفر لهم الحماية في الهجرتين الأولى والثانية. واليوم، نتحدث عنه بشيء مفصَّل أكثر، فقد أورد السيوطي في كتابه "رفع شأن الحبشان" حديثاً مسنوداً برواية ثابتة موثقة، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: "سادة السودان أربعة؛ لقمان الحبشي والنجاشي وبلال ومهجع". ونستعرض في هذا المقال سيرة هذا الملك العظيم، فقد وُلد النجاشي، واسمه أَصْحَمة بن أبكر (أو أبجر)، في أوكسوم، وكان والده ملكاً، وليس له من الذرية إلا أصحمة، وبعد وفاة الأب انتزع الحُكم عم أصحمة، الذي له من الأولاد عدد كبير، وقام ببيع أصحمة في سوق العبيد، وتم نقله إلى مصر، ثم سورية، ويُقال إلى منطقة قريبة من مكة المكرمة أيضاً. إلا أن الإثيوبيين بحثوا عنه، وأعادوه إلى الحُكم بعد وفاة عمه، لعدم أهلية أبناء عمه للقيام بأعباء الحُكم. وتعلم أصحمة اللغة العربية أثناء وجوده بالمنطقة العربية، وتحدث بها بطلاقة.
وأورد الطبري في تاريخه وابن كثير في سيرته وغيرهما روايات مفصلة وعديدة عن علاقة النجاشي بالرسول، صلى الله عليه وسلم، فذكر الطبري وابن كثير مثلاً، أن أول مبعوث أرسله الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى النجاشي، كان عمرو بن أمية الضمري، وذلك بعد صلح الحديبية، ومعه كتابان، أحدهما يدعوه فيه إلى الإسلام، والثاني يطلب منه أن يزوجه أم حبيبة التي تنصَّر زوجها وتوفي في الحبشة. فكان رد النجاشي، طبقاً لمعظم الروايات، أنه رد بقبول الدعوة للإسلام، وأرسل رسالة جوابية سلمها لابنه أريحا، ليوصلها إلى الرسول، لكن السفينة التي كانت تنقله ومن معه من مرافقين غرقت في عرض البحر. وفيما يتعلق بتزويج أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقد قام النجاشي بدفع كل ما ترتب على تزويجها للنبي، صلى الله عليه وسلم، من مهر وتجهيزات وترتيبات. أما نص كتاب الرسول (ص) إلى النجاشي، فهو كما يلي:"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد إليك، الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه، كما خلق آدم بيده ونفخه. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً، ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فاقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله، عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى".فكتب النجاشي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت. وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقاً ومصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين. وقد بعثت إليك يا نبي الله بأريحا بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق".وتذكر المصادر التاريخية، أن أول وَفْد وَفَد إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، كان وفد النجاشي أصحمة، الذي جاء يستفسر عن الإسلام. كما تشير المصادر إلى أن النجاشي أرسل سرية من الأحباش لدعم الرسول، صلى الله عليه وسلم، في إحدى غزواته، وكان عدد الرجال فيها ستيناً. وعند وفاة النجاشي في العام التاسع للهجرة النبوية، علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، عن طريق الوحي، وصلى عليه صلاة الغائب، طبقاً للعديد من الأحاديث، وقال عليه الصلاة والسلام للصحابة: "مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة".