الحملة على الأزهر
على الأزهر أن يصلح مناهجه، ويطور فكره، ويجدد خطابه، وليس علينا أن ندفعه لأن يؤدي أدوار مؤسسات الأمن والسياسة، وأن يحدد من المؤمن ومن الكافر.
كان البابا فرانسيس في مصر على مدى اليومين الفائتين، في زيارة مهمة حظيت باهتمام عالمي واسع النطاق؛ خصوصاً أنها تأتي في أعقاب بعض الهجمات الغادرة التي استهدفت الأقباط، في أكثر من كنيسة من كنائس البلاد.لقد حرص البابا على زيارة مقر مشيخة الأزهر الشريف، ولقاء الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، كما حرص على إلقاء كلمة مهمة، أكد فيها أن زيارته "رسالة وحدة وأخوة"، وشارك في مؤتمر السلام العالمي الذي ينظمه الأزهر، ويناقش من خلاله سبل تعميق التعايش والتفاهم بين الحضارات وأتباع الأديان المختلفة.وبدوره، حرص شيخ الأزهر على أن يلقي كلمة أيضاً في حضور البابا، ومما قاله الشيخ: "الأرض الآن ممهدة لأخذ الأديان دورها لإبراز قيمة السلام واحترام الإنسان والمساواة"، وهي كلمة تشير إلى رغبة الشيخ في تصالح بين أتباع الأديان المختلفة، يقوم على قاعدة المساواة.
لكنه لم يخف أيضاً المرارة التي يشعر بها، ويعبر عنها بإلحاح منذ فترة، حين ألمح إلى ما يعتبر أنه هجمة غير مبررة على الإسلام انطلاقاً من ارتباطه المزعوم ببعض الحوادث الإرهابية الأخيرة.وفي ذلك الصدد، حرص الشيخ على القول: "يجب ألا نحارب الأديان بسبب جرائم قلة عابثة، فليس الإسلام دين الإرهاب بسبب قلة خطفوا بعض نصوصه واستخدموها في سفك الدماء ويجدون من يمدهم بالمال والسلاح والتدريب، وليست المسيحية دين إرهاب، وليست اليهودية دين الإرهاب، وليست الحضارة الأوروبية حضارة إرهاب، ولا الحضارة الأميركية حضارة إرهابية بسبب هيروشيما وناغازاكي".ليست تلك هي المرة الأولى التي يلمح فيها شيخ الأزهر إلى ما يمكن وصفه بـ"المكاييل المتعددة" عند التعاطي مع الهجمات الإرهابية التي يشنها بعض الأشخاص الذين يزعمون انطلاقهم من معتقدات وتأويلات إسلامية.ففي نهاية فبراير الماضي، نظم الأزهر ندوة دولية تحت عنوان "الحرية والمواطنة... التنوع والتكامل"، وفي كلمته الافتتاحية لتلك الندوة، حرص شيخ الأزهر على فض الاشتباك الحاصل بين صورة الإسلام من جانب والعمليات الإرهابية التي تقوم بها جماعات مارقة استناداً إلى اسمه، وباستخدام بعض التأويلات الخاطئة من جانب آخر.ولكي يوضح الشيخ فكرته، فقد عمد إلى سوق بعض الأمثلة التي تشير إلى أن استخدام التأويلات الدينية الخاطئة من أجل تبرير القيام بالعمليات الإرهابية لا يقتصر على أتباع دين معين، ولكنها ممارسة شائعة في مختلف الأديان والمذاهب؛ مثل اعتداءات "مايكل براي" بالمتفجرات على مصحات الإجهاض، وتفجير "تيموثي ماكفي" للمبنى الحكومي بأوكلاهوما، والصراع الديني في أيرلندا الشمالية.يشعر الأزهر بمرارة شديدة، كما يبدو في أحاديث شيخه، لأن الإسلام لا يُعامل بإنصاف؛ عندما يتم ربطه بالإرهاب، لكون بعض الإرهابيين المنتسبين إليه أرادوا الإيحاء بذلك، فيما لا يتم ربط الأديان، أو الحضارات، الأخرى بالإرهاب، رغم أن بعض تأويلاتها تسبب في فظائع أكبر من تلك التي يتم ارتكابها تحت زعم الارتباط بالإسلام.لا يمكن إنكار أن التأويلات الدينية كانت وراء الكثير من أحداث العنف والإرهاب التي ضربت العالم عبر التاريخ، كما لا يمكن التغاضي عن دور التصورات الدينية في بعض أبشع الحروب وعمليات الإبادة التي شهدتها البشرية، لكن الأكيد أن هذا الأمر لم يقتصر على أتباع دين معين، إذ تم شن الحروب الصليبية تحت ذرائع دينية، في الوقت الذي أصبحنا نعرف فيه جميعاً أن تلك الذرائع لم تكن أكثر من غطاء لنزعات وأهداف تتعلق بالثروة والسلطة والنفوذ.هذا ما يريد أن يوضحه شيخ الأزهر ويؤكده، لكن ثمة ما يعمق شعور المرارة لدى الأزهر أيضاً في تلك الأثناء، وهو ذلك الهجوم الضاري الذي يتعرض له. يواجه الأزهر راهناً ما يمكن اعتباره "حملة منهجية"، تستهدفه على مستوى الفكر، والتاريخ، والمهمة، والدور، والمؤسسة، والقيادة.الأزهر مؤسسة مصرية جرى عليها ما جرى على معظم المؤسسات المشابهة، خلال عقود التجريف والبلادة والفساد والتردي الفائتة، ومع ذلك، فإن دوره وتاريخه وتأثيره، كلها عوامل لا يمكن إنكارها ببساطة، مهما كانت المآخذ عليه.الحملة التي تستهدف الأزهر راهناً تبدأ من أعلى سلطة في الدولة؛ إذ سبق أن ألمح الرئيس في حديث علني إلى ما يمكن اعتباره "عتاباً على الأزهر"، وغمزاً من قناة شيخه الأكبر.يريد الرئيس السيسي أن نفهم أن "الأزهر له دور في كبح جماح الفكر المتطرف، وأنه لا يقوم بدوره على الوجه الأكمل، وأن هذا الدور يبدأ بتجديد الخطاب الديني، خصوصاً عبر تنقية كتب التراث ومناهج التعليم الأزهري، وهو أمر لا يحدث".وبموازاة هذا "العتاب الرئاسي"، ثمة حملة واسعة تجدها واضحة للغاية في معظم وسائل الإعلام الموالية، كما يمكن أن تجدها في مقالات وتصريحات لشخصيات عامة ومفكرين ليبراليين أو يساريين أو محافظين.يريد هؤلاء من الأزهر أن يؤدي دوراً أكثر فاعلية، وأن يقوم تحديداً بـ"تكفير داعش"، وهو الأمر الذي يمتنع عنه لأسباب تتعلق بموقفه الثابت من قضية التكفير.إن الأزهر في حاجة إلى إصلاح بالتأكيد، ومناهجه في حاجة إلى تنقية على نحو سريع وفعال، وخريجيه في حاجة إلى تطوير وتأهيل وتدريب، لكن ذلك لن يحدث عبر الضغط عليه، وتجريحه، والنيل منه.لا يمكن أن نفهم كيف يطلب مثقفون ليبراليون، يزعمون دفاعهم عن حرية الاعتقاد والرأي، من كيان ديني أن يكفر آخرين لأنهم ارتكبوا جرائم معينة.ما الذي يمنع مرجعية دينية مثل الأزهر من تكفير المثقفين الليبراليين لاحقاً، بعدما يفرغ من تكفير "الدواعش"؟على الأزهر أن يصلح مناهجه، ويطور فكره، ويجدد خطابه، وليس علينا أن ندفعه لأن يؤدي أدوار مؤسسات الأمن والسياسة، وأن يحدد من المؤمن ومن الكافر.الأزهر كان موجودا لمئات السنين، ولم تندلع الأحداث الإرهابية، وإذا جدد خطابه، أو غيّر شيخه، أو كفّر "الدواعش"، فإن الهجمات الإرهابية لن تتوقف بطبيعة الحال، طالما كانت تجد ذرائع سياسية واقتصادية، وعواراً أمنياً، ودعماً من دول ومنظمات بالمال والسلاح.* كاتب مصري