صادف منذ أسبوع في الثالث والعشرين من أبريل اليوم العالمي للكتاب، حيث احتفلت مكتبات العالم ومؤسسات النشر والمهتمون كل بطريقته. وهي مناسبة تحفزنا جميعا لإعادة النظر والتفكّر في فحوى هذا الوعاء الناقل للمعرفة والأفكار وهواجس النفس البشرية، آخذين بعين الاعتبار كون الكلمة المكتوبة والمقروءة هي الاختراع الأعظم في التاريخ البشري، ابتداءً من الكتابة على الرقاع والأحجار والعظام ونبات البردي إلى آخر مبتكرات الورق والتجليد، وانتهاءً بالشاشة الإلكترونية. كل تلك الأدوات ليست سوى أوعية لنقل الفكر وتداوله. وعليه، فالكتاب كيان اعتباري في معناه الحقيقي، ينسرب إلى تلك الحزمة من الورق التي تنقل السوانح والأفكار وتحفظها في سجل، ومنها يتأسس فعل القراءة، ويتحول إلى جهد بشري آخر، ويتكرّس بالتواصل والفهم والتقييم. والقراءة كانت وستظل شغفاً بالدرجة الأولى، وهي أيضاً موهبة وعادة، بل قد تصل عند البعض إلى درجة الحاجة الحياتية والروحية التي لا غنى عنها، ولا فكاك من أسرها.
وعلى النقيض من ذلك هناك من تتعبه القراءة وتصيبه بالضجر، لأن شغفه يصب في اتجاهات أخرى وأنشطة حياتية مغايرة. ولعله من الظلم بمكان أن نشير بأصابع الاتهام إلى من لا يقرأ، أو نصفه بالجهل واللامبالاة. إن الحكمة ضالة المؤمن يجدها أينما جدّ وراءها، بمعنى أن المعرفة وتفريعاتها قد تكون لها وسائل أخرى غير الكتاب، كالإنترنت والأفلام والبرامج المتلفزة وحضور المحاضرات وورش العمل، وكالإصغاء إلى نبض الحياة والتعلم من السفر والاختلاط، والامتياح من تجارب البشر ودروس الحياة المعيشة. قد يكون الكتاب من أهم ينابيع المعرفة، لكنه في النهاية ليس كياناً مقدساً، والحياة العصرية باتت ترينا أن الكتاب قد يُستبدل بما هو أكثر إثارة وتشويقاً، أو أكثر ملاءمة للأمزجة والهوايات. ورغم كل مغريات العصر المعرفية والمعلوماتية الأخرى يظل الكتاب – كما أعتقد – الحافظ الأكثر أماناً لتراث البشرية وتاريخها. قد يصاب جهاز الكمبيوتر أو "السيستم" بعطل ما، أو قد تندلق قهوتك على اللاب توب فتضيع جهود سنوات في طرفة عين، وقد يسقط هاتفك الذكي في الماء ليظهر لك غباءه وقلة حيلته. وأنت إزاء هذه المشاهد المؤسفة تدرك كم هي التكنولوجيا هشة وقابلة للعطب والخيانات غير المتوقعة. فتعود إلى أوراقك القديمة وكتبك المغبرة، معتذراً لها عن هجرك وجحودك. ويبقى أن لكل منا قصته مع الكتاب. فهناك الكتاب الأول قراءةً، والكتاب الأكثر تأثيراً، والكتاب الأول تأليفاً، ثم الأول إصداراً. وهناك مكتبة البيت، ومكتبة المدرسة، ثم مكتبة الجامعة والحيّ والرصيف، ثم معارض الكتب العصرية، بما أضافته من بهارج وإثارة، وبما تضخه من ثقافة تسويقية تختلف فيها الآراء والرؤى. أما أشد محن الكتاب ضراوة، فتتمثل في مسلسل حرق الكتب عبر التاريخ. فمن أقدم الأمثلة حرق مكتبة الإسكندرية عام ثمانٍ وأربعين قبل الميلاد على يد يوليوس قيصر. وفي عام 473 م حُرقت مكتبة القسطنطينية بعاصمة الدولة البيزنطية، وفقدت المكتبة 120 ألف مخطوطة كانت حافظة للمعرفة القديمة لليونان والإغريق لأكثر من ألف عام. وكذلك انتهت مكتبة بيت الحكمة في بغداد إلى الدمار على يد المغول، بعد أن تم إغراق كتبها في نهر دجلة، حتى أسودت مياهه من كثرة ما ذاب بها من أحبار، كما تقول الروايات. ومن العصر الحديث نمثل بما فعلته قوات الرايخ الهتلرية من حرقها للمكتبة الشعبية بصربيا علناً إبان الحرب العالمية الثانية عام 1941. وهذه الأمثلة غيض من فيض مما ارتكب بحق الكتب عبر التاريخ.
توابل - ثقافات
تأملات في يوم الكتاب العالمي
02-05-2017