خبز الألم والفرح

نشر في 03-05-2017
آخر تحديث 03-05-2017 | 00:00
 طالب الرفاعي على مر الأزمان ظل الإنسان منذوراً لمكان عيشه ومنغمساً في جهد يومه العادي؛ صمغ الروتين والكد والتعب وشيء من الألم. وكان ولم يزل محظوظاً ذاك الذي يقابل نتفة فرح أو سرور أو أنس عابر خلال يومه.

لا أتكلم هنا عن أيام قد تمر زاهية وراكضة في دروب أعمارنا، لكني أشير إلى الغالب الأكبر من أيام أعمارنا. فملايين البشر تمضي يومها في دائرة عملها صامتة ومتلفتة فيما يشبه توقعاً إلى ما قد تأتي به اللحظة المقبلة، وعساه أن يكون الأمنية. ولسان حالها يردد خلف شاعر تركيا الكبير ناظم حكمت: «أجمل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد».

نعم، ملايين البشر في كل مكان، تعمل بينما هي تنتظر شيئاً تعرفه وقد لا تعرفه، شيئاً يغيّر من صنمية حياتها اليومية المرسومة، وينقلها من حال إلى حال. وربما شكّل هذا المجهول/ الأمنية سبباً كافياً لاندفاع الإنسان لكسر طوق دائرة حياته والانتقال إلى مغامرة حياة أخرى علها تكون الأفضل.

نحن في أكثر من قطر من وطننا العربي نعيش هروب الملايين من تنور العنف والحرب المدمرة إلى بيئات جديدة، علها تكون أرحم من جنون الوحشية والتوحش. ملايين المواطنين العرب، باتوا يعيشون في مخيمات الملاجئ، ومن هؤلاء من ركب المغامرة وراح يبحث عن فرصة عيش أخرى في بلاد الله الواسعة.

حلم العيش بسلام تحت سقف لا يخر بالماء وغاز الموت والقنابل والموت، حمل ملايين العرب إلى مواطن جديدة. مواطن الغربة، ومواطن الأرض الجديدة، ورطانتها الجديدة، ووجوهها الجديدة.

هناك حيث الوطن الجديد، وحيث حلم العودة أو اللاعودة، هناك يبدأ المهاجر العربي، إن صح له ذلك، حياة مختلفة، ويبدأ معها ما يشبه توقع فرح قد يأتي.

لم تصب شظايا الربيع العربي أحداً بمقتل كما أصابت الثقافة، ومعها أصابت الإبداع والمبدعين في بلدان عربية كثيرة. لقد شرد زلزال الربيع العربي القاسي الكثير من الكتّاب والرسامين والمسرحيين والموسيقيين والسينمائيين وغيرهم من المثقفين. وراح هؤلاء يتذكرون أوطانهم في لحظة أسى، وينظرون واقعاً جديداً ماثلاً أمامهم في لحظات أخرى كثيرة.

وفي كل مرة أقابل أحداً من هؤلاء الأصدقاء يقول لي؛ «لحظة فرح في المنفى لا تشبه لحظة فرح في الوطن». وقد تتندى عيناه لحظة يبعث: «العودة إلى الوطن، باتت أمنية، وأبعد منها باتت عودة الوطن لما كان عليه».

الألم خبز شهي للحظة البشر أينما كانوا. ويحلو للمبدعين دعوة من حولهم لمائدة خبزهم عبر إبداعهم. لذا زخر الأدب في كل مكان بقصص هذا الخبز المغمس بالألم، وهذا ما يجعل خبز الكثير من الزملاء الكتّاب العرب مرا وحلوا. مر لأنه يعكس حال وجعهم بحيواتهم الراعفة، وحلو لأنه يرشح بإبداع يهز القلب.

علمتني الحياة، أن بائع دكان فرح الحياة لا يمل التنقل بين البشر. وأنه لا ينأى يحمل بضاعته الغالية يوزعها على البشر في كل مكان وفق حظوظهم. لكن وكما العطر رهن بالعبير، فإن الفرح عابر ليبقى. لحظة الفرح غالية لأنها الأبقى في ذاكرة البشر. لحظة الفرح نقطة مغايرة على قماش العمر، تلوح على البعد كلما نظرنا إليها.

قد تأتي قدرية الحياة بفرح مُنتظر. لكن بذل كل ما يمكن لتحقيق هدف إنساني مشروع، هو بمنزلة صناعة فرح اللحظة. فلا شيء يقدم فرحاً للإنسان بقدر رضاه عن نفسه، ولا شيء يبعث بالرضا عن النفس بقدر العمل، وليس كالعمل محرك لماء اللحظة الساكن.

برغم كل ما يحيط بنا، سنعمل بجد لكسر روتين اللحظة. وسنعمل ليكون لوجودنا معنى. وسنعمل لإسعاد أنفسنا. وأخيراً سنعمل لنلاقي لحظة فرح غالية تبعث رجفة السرور في قلوبنا.

back to top