من المتوقع أن تعلن الحكومة خلال الأسابيع المقبلة «النسخة الثانية» لوثيقة الإصلاح الاقتصادي والمالي التي ينتظر أن تتضمن مراجعات وتطويراً لعدد من السياسات الخاصة بالنسخة الأولى من الوثيقة التي تعرضت لقدر مرتفع من الانتقادات الفنية والسياسية.فوثيقة الإصلاح الاقتصادي ذات الـ14 شهرا بنسختها الأولى التي طرحتها الحكومة كمشروع دولة لمواجهة التراجع الحاد في أسعار النفط وانعكاساته على الاقتصاد الكويتي والميزانية العامة حفلت بمجموعة من الثغرات والاختلالات التي لا يمكن أن يكتب من خلالها النجاح أو تحقيق الأغراض التي وجدت من أجلها الوثيقة.
اقتصاد لا جباية
الحديث عن نسخة ثانية يجب أن يتلافى أخطاء وثغرات النسخة الأولى، كي لا يصبح مصير النسخة الحديثة كمصير سابقتها، فضلا عن العديد من المشاريع الحكومية والخطط العامة المتعثرة أو ذات الفاعلية المحدودة كمشروع خطتي التنمية، أو مشروع تحويل الكويت مركزا تجاريا وماليا، ولعل من أهم ما يجب على واضعي النسخة الجديدة التنبه إليه هو ضرورة التعاطي مع الوثيقة الاقتصادية بمفهوم تنمية الاقتصاد على حساب الجباية المالية، إذ إن النسخة الأولى ركزت على مفهوم الجباية المالية، عبر رفع أسعار البنزين والكهرباء والماء ومختلف أنواع الدعوم الخاصة بالمستهلكين، مقابل مرور سريع غير مفصل على أهم التحديات التي تواجه الكويت كإيجاد فرص عمل دون تقديم أرقام لمستهدفات هذا التحدي، أو استقطاب الاستثمارات الأجنبية وما يرتبط بها من خبرة وتكنولوجيا وأموال، دون أن تتطرق إلى آليات تنفيذية أو خطط تشريعية أو فنية لجذب المزيد من الاستثمارات.إدارة الدين العام
من المهم أن تتضمن النسخة الثانية من الوثيقة آليات واضحة ومحددة لإدارة الدين العام الذي أصبح واحدا من أهم بنود التحديات الاقتصادية خلال السنوات المقبلة، بعد استدانة الكويت 2.2 مليار دينار محليا و8 مليارات دولار من السندات الدولية، فضلا عن التوجه لاقتراض جديد بسقف يصل الى 20 مليار دينار في الفترة المقبلة، وهذا التوجه ليست الخطورة فيه بالاستدانة في حد ذاتها، بل في كيفية إدارة الاقتصاد في ظل تنامي الديون، إذ لا يمكن التعاطي مع المالية العامة في زمن الاقتراض والديون بنفس عقلية إدارتها في زمن الوفرة والفوائض المليارية، وسيعني إهمال هذا الملف رفع كلفة الاقتراض مستقبلا، وصعوبة الحصول على التمويل المطلوب، وربما في أسوأ الأحوال التعثر عن السداد والخضوع تحت وطأة الدائنين.هيكلة المشاريع
والكويت من الدول التي تتسم بارتفاع الإنفاق الاستثماري، مقارنة بالناتج المحلي، لكن دون عائد اقتصادي على المدى الطويل، إذ تشير بيانات نشرتها مجلة «ميد» أخيرا الى أن الكويت أرست عقودا في الربع الأول من العام الحالي بقيمة 1.4 مليار دينار، ومن المتوقع أن يتم ترسية المزيد من العقود لقيمة تصل الى 6.2 مليارات دينار، أي نحو 20 مليار دولار قبل نهاية العام الحالي، وهنا يمكن مقارنة ثبات الكويت خلال عامين في الإنفاق الاستثماري العالي بالتوجه الخليجي، لاسيما في السعودية لخفض الإنفاق على المشاريع غير الأساسية وإعادة هيكلة العديد من المشاريع الأخرى لتتماشى مع خطط الترشيد المالي عبر مراجعة عقود حكومية بقيمة 69 مليار دولار، واستهداف خفض كلفتها بنحو ثلث القيمة.فضلا عن أن مستهدفات الإنفاق على المشاريع في النسخة الجديدة يجب أن ترتكز على أهداف واضحة كتوفير فرص العمل، الى جانب تقديم إيرادات غير نفطية للميزانية، إضافة إلى جودة الخدمة وتنوعها.لا تراهنوا على الخصخصة
هناك مبالغة في النسخة الأولى من الخطة في الرهان على الخصخصة لقطاعات جوهرية تمتد الى أن تصل الى القطاع النفطي، فضلا عن التعليم والصحة، مع أن الجهاز التنفيذي للدولة ليست لديه أصلا تجربة في خصخصة حتى قطاعات صغيرة ومتوسطة، كالبريد أو الأندية الرياضية أو المشروعات السياحية أو الخطوط الكويتية، ولعله لا توجد دولة في العالم تقدم على طرح خدماتها بهذا الشكل الجماعي للخصخصة، لما فيه من اختلالات تصيب سوق العمل، وتمتد آثاره على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الى جانب الآثار التضخمية المتوقعة على السوق، فضلا عن أن اتجاهات الخصخصة الموجودة في النسخة الأولى لم تتطرق لتحديات توفير المنافسة بعد خصخصة القطاعات الأساسية، ولا لمعالجة الاختلالات المتوقعة في سوق العمل، وتحديدا للعمالة الوطنية.قرارات غير شعبية
وليس بالضرورة أن تكون القرارات غير الشعبية هي الصحيحة أو الملائمة لإصلاح الأوضاع الاقتصادية التي تتطلب، قبل التعامل مع شعبيتها، أن تلامس أصل الخلل الذي تعانيه الكويت منذ سنوات، وهو عدم وجود أي اقتصاد مساند يوفر للدولة عوائد وفرص عمل وتكنولوجيا وخبرات واستثمارات تقيها تقلبات الأسواق النفطية.وفي الحقيقة، فإن النسخة الأولى حفلت بجانب عال من الارتكاز على قرارات غير شعبية تستهدف رفع أسعار الخدمات والسلع وفرض ضرائب قيمة مضافة والخصخصة وغيرها، وكأن الوثيقة تحمل المجتمع آثار العجز في الميزانية وآليات تمويلها، مما يزيد من شكوك الرأي العام في عدالة وحيادية الوثيقة في تعاملها مع مصادر التمويل المفترضة، مع أن الأولى على المدى المتوسط هو إنشاء اقتصاد مساند، وفق بيئة استثمارية تستقطب الشركات الأجنبية، يحفز استثمار المحلية ويحقق عوائد ضريبية ويوفر فرص عمل، فضلا عن فتح السوق لمنافسة حقيقية تكبح آثار التضخم.أهمية البرنامج الزمني
خلت النسخة الأولى من الوثيقة الاقتصادية، رغم توسعها في المشاريع من البرنامج الزمني للتنفيذ، مع أن الخطط الكبرى من هذا النوع تستوجب إفصاحات فصلية وسنوية لبيان مدة ونسبة الإنجاز، ومدى اتساق التنفيذ مع الأهداف المحددة، لذلك كان من الأفضل أن تتحدد الخطط والمشاريع قصيرة ومتوسطة الأجل الواردة في الوثيقة بجداول زمنية إلزامية، كي يقيم الرأي العام مدى فعالية الجهاز التنفيذي في التطبيق من بداية التنفيذ الى نهايته، فضلا عن أن وزير المالية نفسه شدد، في رده على سؤال نيابي، على أن الوثيقة تحتاج إلى «تضمين مؤشرات وقياسات أوسع وآليات تمكن من تقييم الإجراءات ومتابعة معدلات الإنجاز».النسخة الثانية من وثيقة الإصلاح ربما تكون بوابة لمعالجة اختلالات الاقتصاد إذا تم تلافي اختلالات النسخة الأولى، فالوقت لا يسمح بإصدار المزيد من النسخ في وقت تتعاظم فيه اختلالات الاقتصاد، وبالتالي كلما تأخر الوقت، كان العلاج أكثر إيلاما وأقل أملا.