أنا الإنسان الحديث، أعيش في سجن من الأسمنت الخانق السميك، لكنني أعتقد أنني حر، أقضي معظم يومي في العمل جالساً أمام شاشة الحاسب التي تمتص طاقتي لساعات طويلة... عند انتهاء العمل أكون منهكاً، لكن ما زال لدي الكثير من الالتزامات في المنزل، أنتظر نهاية الأسبوع بفارغ الصبر كي أذهب للتسوق وتناول الطعام في المولات، فالاستهلاك هو إرادتي الحرة! يوجد الملايين من الناس على شاكلتي، يعيشون هم أيضاً في قواقعهم الأسمنتية، لكن عجباً! فإن الوحدة هي الشعور المصاحب للكثيرين.

أنا الإنسان "المتمدن"، أملك جميع سبل الراحة والرفاهية كالسيارة والهاتف والمنزل الكبير والمال الوفير... لكنني ما زلت غير سعيد! فالاكتئاب هو مرض العصر، أقضي حياتي في الخمول وتناول الوجبات السريعة، وأحقن نفسي بالمواد الكيميائية، ثم أتساءل عن سبب انتشار الأمراض الخطيرة والسرطانات، والتي غالبها سببه نمط الحياة الخاطئ. أعبث بهاتفي الذكي منشغلاً بالتوافه وأنسى أن هذه الأداة الخارقة يمكنها أن تكون نافذة إلى المعارف التي توسع مداركي وتثري عالمي.

Ad

أنا الإنسان الأناني، أستهلك كل ما تقع عليه عيناي ويدي وألقي مخلفاتي في البحار، أو أدفنها وأحرقها فذلك أضعف الإيمان! أقتل الأرواح البريئة للتسلية، فلا يهم إن ماتت الطيور والحيوانات والنباتات بسببي، ولا يهم إن تلوث الماء الذي أشربه واستحال الهواء الصافي الذي أتنفسه إلى سواد! فأنا السبب الرئيس في انقراض مئات الكائنات خلال فترة قياسية، ودائماً ما أجد لنفسي المبرر والأحقية في ارتكاب هذه الجرائم في حق الأرض، وقريباً سيصبح النمر والفيل والزرافة والأسد من المخلوقات الخرافية التي أقص أساطيرها على أبنائي!

أنا الإنسان كثير النسيان، أشيح بوجهي عن معاناة إخوتي المعدومين من البشر في حين أقلب حقيبتي الباهظة بين يدي وأقود سيارتي ذات المبلغ الخيالي وسط شوارع يكنسها الجياع والبسطاء، أتبرع درءاً للشعور بالذنب لجهات تحتفظ بمعظم تبرعاتي لها وتعطي الفتات فقط للمحتاجين، لا أفكر بالمبادرة أو عمل أي شيء يقلق راحتي، فالالتزام والشعور بالمسؤولية ليسا من خصالي.

أنا الإنسان الحديث، أرجع إلى سديم ذاكرتي الأولى، حيث كانت الحياة بسيطة، آكل ما أزرع في أرض أتشاطرها مع إخوتي من البشر وجيراني من الطير، بدلاً من تعليبي في المكاتب كي أحصل على مال يمكنني من شراء طعام معلب... مثلي! أنا الإنسان التعيس الذي أحال بساطة الحياة إلى تعقيدات لا نهاية لها. أبحث عن السعادة في اللامع من القشور فينتهي بي المطاف وحيداً.