مرض الموت يصبح شأنا عائليا يقتسمه معك كل من يحيط بك بدرجات متفاوتة. وألم النظر في الوجوه من حولك، وهي تحاول أن تتماسك، أشد قسوة من ألم المرض ذاته. حين عدت من الكويت في ديسمبر الماضي غادر صديق غربتي "بوعادل" إلى الكويت، مصطحبا زوجته وأطفاله، كي لا يموت هنا غريبا ووحيدا بعيدا عن وطنه وأسرته الكبيرة. كان يعاني مرض السرطان، الذي لن يمهله طويلا، بعد أن أعلن الأطباء هنا حالته "ميؤوس منها".

في الأسبوع ذاته أدخلت المستشفى، لأكتشف أنني أيضا مصاب بسرطان القولون، والذي انتشر إلى منطقة الكبد. قرر الأطباء إجراء عملية استئصال القولون في اليوم التالي، وأصبحت فجأة شخصا ينتظر الموت، وعليّ أن أقاوم بكل قوتي، أو أقرر العودة إلى وطني وأسرتي وصديق غربتي.

Ad

حين عدت وزوجتي من المستشفى إلى البيت يرافقنا شبح الموت، وكأنه يرمي بجسده على جسدي ويرهقني، اجتمعت العائلة الصغيرة: الوالدان ورفقاء الغربة الثلاثة، والذين تجاوزوا العمر القانوني الآن. قررنا أن نكتم الخبر عن الصغيرين اللذين ولدا في الغربة، ليتخلصا من لفظها ووزرها. كان علي بلغ التاسعة يعيش حياة شبه منعزلة مع أجهزة العالم الجديد الذي يشارك فيه جيل التكنولوجيا الغامض.

في يناير 2017، وأثناء رحلة العلاج الكيماوي، تعلم الأولاد ألا يقتربوا مني. يحيونني من بعيد، ويهبطون إلى المكتبة وصالتهم في السرداب ينهون واجبهم المدرسي ويمضون ساعتي لعبهم ثم يذهبون للنوم. ويفهمون ذلك حماية لهم مني، وليس حماية لي منهم.

في أواخر يناير لم أفهم كيف طرأ على علي أن يسألني وهو يراني ممددا مرتديا جواربي: "بابا صحيح من ينام وهو يرتدي جواربه يصاب بالسرطان؟".

"من قال لك هذا؟".

"أنا اكتشفت ذلك، ولا أريدك أن تنام بجواربك".

"أنا لا أنام بجواربي. اذهب لدروسك".

"أنا أخبرك فقط، لأني أخاف عليك".

"وأنا أشكرك، تستطيع أن تتوقف عن أسئلة كهذه".

كان ينظر إليّ من خلف نظارتيه نظرة غامضة. كان هناك شيء في ذهنه أكاد أقرأه بوضوح.

اعتاد علي أن يزور صديقي قبل رحلته الأخيرة للكويت، ليلعب مع أولاده أو يزوروه في البيت. وبقي يتواصل معهم أثناء وجودهم بالكويت.

في فبراير 2017 لم يكتب لصديقي النجاة من السرطان، فتوفي في الكويت مسقط رأسه، وقررنا كتم خبر وفاته عن علي، حتى عودة أبنائه من الكويت على الأقل.

حين عاد من المدرسة كان يبكي، قال لي:

"صديق يقول إن والده أخبره بوفاة عمي بوعادل".

"نعم! مات بوعادل".

"مات بالسرطان. صحيح كل من يصاب بالسرطان يموت".

ومن دون وعي أجبته إجابة غريبة:

"سرطان بوعادل كان في البنكرياس، وهو سرطان شرس لا ينجو منه أحد، أنا مصاب بسرطان القولون، واحتمال شفائه كبير جدا".

أسرع نحوي وهو يقول: "كنت أعرف أنك مصاب بالسرطان. كنت أعرف".

واحتضنني بشدة وبكى.