يمضي البرلمان قدما في نظر الاتفاقية الدولية التي وقعها في 9 أبريل من العام الماضي رئيس مجلس الوزراء المصري، بالرغم من صدور حكم محكمة القضاء الإداري ببطلان التوقيع على هذه الاتفاقية في مايو من العام الماضي، وبعد أن أصبح هذا الحكم باتاً ونهائياً بصدور حكم المحكمة الإدارية العليا في 17 يناير من العام الجاري، وهي أعلى محكمة في القضاء الإداري، وفي قضاء المشروعية بوجه عام، والذي وصم توقيع رئيس الحكومة على الاتفاقية سالفة الذكر بعدم المشروعية، لمخالفته لأحكام الدستور، ورفضت المحكمة الطعن المقام من الحكومة على الحكم سالف الذكر الصادر من محكمة القضاء الإداري.
الأحكام القضائية عنوان الحقيقة
يمضي البرلمان في ذلك غير عابئ بالخطيئة الدستورية والتاريخية التي سيقع فيها، بمخالفته أحكام القضاء، وأصبح الحكم فيها عنوانا للحقيقة.وتعتبر قاعدة "حجية الأمر المقضي" من القواعد المتعلقة بالنظام العام، وتعني هذه القاعدة أن ما قال به الحكم القضائي، إذا صار باتا، أي غير قابل للطعن فيه بأي وجه من الوجوه، عنوان للحقيقة، بمعنى أن ما قال به الحكم هو الحق بعينه، وأن ما يناقضه بعيد عن الحقيقة. وفي هذا السياق استعدت من التاريخ القريب والبعيد بعض المواقف العظيمة التي وقفها عظماء من الزعماء والقضاة.القضاء في الإسلام
استعدت من كتاب "تاريخ قضاء الأندلس" للباهي المالقي ما رواه عن القاضي مصعب وقضائه، من أنه ذهب إليه البعض يطلبون منه الفصل في شكواهم ضد العباسي بن عبدالملك المرواني، لاغتصابه ضيعة تعود إلى والدهم، الذي توفي وترك أيتاما صغارا، فبعث القاضي مصعب إلى العباسي بما كان من أمر هذه الشكوى، وطلب حضوره ليدفع هذه الشكوى، ففزع العباسي إلى الأمير الحكَم، وطلب منه أن يوصي القاضي مصعب بالتخلي عن القضية ليتولى الأمير نظرها، فأرسل الأمير رسالة بذلك إلى القاضي مصعب الذي رد عليه برسالة يقول له فيها "إن القوم قد أثبتوا حقهم، ولزمهم في ذلك عناء طويل، ونصب شديد، لبعد مكانهم، وضعف حالتهم، فلست أتخلى عن النظر في هذه الشكوى وإنفاذ الحكم لوجهه".فأعاد الأمير الأمر إليه برساله يقول له فيها: "لا بد لك من أن تكف عن النظر في هذه القضية، لأكون أنا الناظر فيها". فلما جاءت القاضي الرسالة أمر الرسول بالجلوس، ثم أخذ قرطاسا فسواه، وعقد فيه حكمه للقوم بالضيعة، ثم أنفذه لوقته بالإشهاد عليه، ثم قال للرسول: "اذهب إلى الأمير- أصلحه الله- فأعلمه أني قد أنفذت ما لزمني إنفاذه من الحق". فاستشاط الأمير الحكم غيظا، إلا أن الله تعالى ثبّت بصيرته، فقال للعباس: "ارجع عن ظلمك فما أشقاه من جرى عليه قلم القاضي".الرئيس أيزنهاور وأحكام القضاء
واستعدت من الذاكرة كذلك الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا الأميركية في عام 1954 بأن نظام التفرقة العنصرية يجب أن يُنهى في أسرع وقت ممكن في القضية التي أقامها الطالب الأسود جون ميرديث بأن من حقه أن يلتحق بالجامعة التي كانت قد قصرت الالتحاق بها على البيض. فأصدر حاكم ولاية أركنساس أوامره إلى قوات الحرس الوطني للولاية والشرطة بمنع تنفيذ الحكم، ولما عرض الأمر على الرئيس أيزنهاور، أصدر قرارا بإرسال قوة من الجيش الأميركي إلى ولاية أركنساس، تحملها الطائرات لتنفيذ حكم المحكمة العليا الأميركية، وحبست أميركا أنفاسها والمشاعر تغلي. وما إن رأى حاكم الولاية قوات الجيش الأميركي تتقدم من أبواب الجامعة وهي تحمل العلم الأميركي، حتى أذعن لحكم المحكمة وتنحى ومرافقوه عن أبواب الجامعة، ليدخل إليها الطالب الأسود جون ميرديث.تشرشل والقضاء
ولا تفوتني قصة القاضي البريطاني الذي أصدر قرارا بمنع الطائرات العسكرية من التحليق قرب مقر المحكمة والتي يشوش أزيزها على المحاكمات التي تجري أمامها، وكان ذلك خلال أصعب الفترات التي مرت بها بريطانيا، خلال الحرب العالمية الثانية التي قضت على الأخضر واليابس، فذهب وزير الحربية إلى تشرشل رئيس الحكومة يخبره بأن محكمة بريطانية أصدرت هذا الحكم، وأن تنفيذ هذا الحكم قد يسبب ضررا للعمليات الحربية التي تقوم بها بريطانيا، فأصدر تشرشل أمره على الفور إلى وزير حربه بتنفيذ قرار المحكمة قائلا له:"خير لبريطانيا أن تخسر الحرب من إهانة قضائها، وعدم الامتثال لقرار المحكمة فيه إهانة للقضاء البريطاني لن يمحوها الزمن، وسوف يلحق العار ببريطانيا العظمى إلى أبد الدهر، أما الحروب فيوم علينا ويوم لنا".