حينما يولد الإنسان تتنازعه علاقات شتى توجد جميعها في مكان بعينه، وذلك تحديداً ما يقدم المكانة الجوهرية للمكان في هوية الفرد، فالمنفيون والمهاجرون وغيرهم ممن اقتلعوا من مكانهم الذي تخلقت به علاقاتهم، تصطدم هويتهم بانقلاب المكان واختلافه، ويتمثل ذلك الارتطام الوجودي بمصاعب اللغة، والحنين، والفقد ومحاولة تثبيت الهوية. غالباً ما يتداول السوسيولوجيون والفلاسفة سؤالاً محدداً، ويداورونه من جميع الجهات: هل الهوية تولد مع المرء أم أنها تتشكل جنباً إلى جنب مع حياته؟ وما هو يقين على الجانب الآخر أن للهوية تاريخاً مديداً، طالما أن الجميع يكادون يتفقون على القول بأن الهوية ليست صفة موروثة للفرد بقدر ما هي محصلة لتفاعله مع الآخرين، والكيفية التي يتعامل بها مع واقعه الموضوعي.والحال كذلك، فإن اهتمام من يتبنى هذا المنظور من الطبيعي أن ينصرف كلية إلى الصيرورة التي تتشكل وفقاً لها الهوية، أو بعبارة أدق كل العمليات التي تسهم في صناعة الهوية وبنائها.
ومثلما هو معلوم هناك تياران عريضان في توصيف الهوية ومقاربتها: أولهما ما يمكن أن نطلق عليه مسمى التيار التقليدي، ذاك القائل إن جميع الديناميات الاجتماعية كالطبقة، والنوع، والعرق وغيرها تتفاعل جميعاً- وفي الوقت عينه- لتشكل مفهوماً ثابتاً ومتسقاً للهوية. وثانيهما وبوسعنا أن نسميه بالتيار الحداثي، فيذهب إلى القول إن الهوية برمتها ما هي إلا توليفة غير مكتملة، التأثير الأكبر عليها يتأتى من العوامل الاجتماعية والنفسية على حد سواء. وعلى الرغم من ذلك فإن هذين التيارين يخفقان في تقديم تفسير متكامل للهوية، والسبب الرئيس في ذلك يتمثل بكونهما يقصران عن وصف ما يختبره الإنسان بصورة دقيقة، فهوية الفرد تبدو في أحايين كثيرة ملأى بالتناقضات والغموض، كما أنها غالباًَ ما تكون متشظية يعوزها الاتساق.ولئن كانت هناك عناصر عدة لصناعة الهوية، فإن أحدها يتلخص في إضفائه صفة مجردة على الفرد، إذ غالباً ما يلجأ الناس إلى وصف الآخرين بأوصاف معينة، كالحديث عنهم، على سبيل المثال، بوصفهم أفارقة، أو أوروبيين، أو صينيين. غير أن الإشكالية الكبرى تأتي إلينا حين تحتل الهوية مركزية عاطفية في المجتمع، وتتصدر تاليا السياسة والاقتصاد والفكر، وهي تغدو أشد وطأة في ظل تصدعات الديمقراطية والحرية.
مقالات
هاجس الهوية
07-05-2017