الانتحاريون الجدد

نشر في 07-05-2017
آخر تحديث 07-05-2017 | 00:07
يعتقد الباحثون على نطاق واسع أن «العزلة» العائلية التي يسببها الانخراط في أنشطة «السوشيال ميديا» للمراهقين، والتي تبقيهم بعيدين عن أعين أوصيائهم، أحد أهم أسباب تفاقم أثر الضغوط والتهديدات الآتية عبر تلك المواقع.
 ياسر عبد العزيز ليس هذا مقالاً مخصصاً لمعالجة حالات الانتحاريين الإرهابيين، الذين يتزايد عددهم يوماً بعد يوم، وينتشرون في أكثر من بقعة من بقاع الأرض، حاملين نذر الموت والدمار، كما أنه لا يتعلق بأوضاع بعض المأزومين والمضطربين نفسياً، والذين يقدمون على قتل أنفسهم هرباً من ضغوط الحياة.

لكن هذا المقال يسعى إلى إلقاء الضوء على صرعة جديدة، تأخذ طريقها لكي تصبح أحد التداعيات الخطيرة المترتبة على الانخراط في أنشطة "التواصل السيبري"؛ عبر محاولة فهم الظروف والملابسات التي دفعت ببعض الشباب والشابات الناشطين على مواقع "التواصل الاجتماعي" إلى إنهاء حياتهم، لأسباب لا تتصل بتصوراتهم الأيديولوجية أو مواقفهم السياسية.

يعتقد علماء الاجتماع أن مفهوم العلاقات الاجتماعية ينشأ نتيجة "التفاعل بين شخصين يشغلان موقعين اجتماعيين داخل الجماعة أو التنظيم أو المؤسسة"، كما يشير معظمهم إلى أن التواصل يُعد ركيزة أساسية وآلية جوهرية لتحقيق هذا التفاعل... فكيف يمكن أن يقود هذا التواصل إلى الانتحار؟

في صيف عام 2016، اهتز المجتمع البريطاني إثر نشر الأنباء عن انتحار المراهقة "فيبي كونوب"، البالغة من العمر 16 عاماً، شنقاً، إثر نشر صورة لها على موقع "إنستغرام"، كانت قد التقطتها لنفسها، بعدما أجرت تغييرات على لون بشرتها، ليصبح مائلاً إلى الصفرة، في محاكاة ذات طابع عنصري لأصدقائها من الجنس الآسيوي.

لم تتحمل "كونوب" الإهانات التي تعرضت لها من مستخدمي الموقع، بعدما تسربت الصورة إليه، وتم التفاعل معها على نطاق واسع، ووجه إليها كثيرون العبارات المحرجة والمسيئة.

قبل هذا التاريخ بنحو عقد كامل، حدثت واقعة مشابهة لمراهقة أميركية، تبلغ من العمر 13 عاماً، وتُدعى "ميغين ميير"، حيث كانت "تتواصل اجتماعياً" على أحد المواقع مع شخص قدم نفسه لها باعتباره شاباً، قبل أن تعرف أن هذا الشاب لم يكن سوى جارتها التي تضمر لها مشاعر عدوانية، وقد استغلت تلك الأخيرة حصاد "التواصل" السابق في التشهير بـ"ميغين" وإهانتها وإذلالها، بشكل فاق قدرتها على التحمل، ودفعها إلى التخلص من حياتها.

وفي أبريل من عام 2015، أقدمت مراهقة فرنسية، تبلغ من العمر 14 عاماً، على اتخاذ القرار نفسه، عبر إلقاء نفسها من الطابق الرابع، في البناية التي تسكن فيها، بحي "لورسا"، في ضواحي باريس، بعدما وجدت أن مقاطع فيديو مُسربة للقاء جنسي جمعها بصديق قد غزت "يوتيوب"، ومعها تعليقات مهينة ومذلة وموجة عارمة من السخرية.

يموت شخص كل 40 ثانية من جراء حوادث الانتحار حول العالم، وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن 800 ألف يفقدون حياتهم سنوياً عبر الانتحار؛ وهو أمر يدعو إلى الأسف بكل تأكيد، لكن ما يجعل الأمر مقلقاً أن الإحصاءات نفسها تُظهر ارتفاعاً لافتاً لمعدل الانتحار بين الأصغر سناً، وخصوصاً هؤلاء في الشريحة العمرية ما بين 15 إلى 29 عاماً.

وفي الوقت الذي يمثل فيه الانتحار السبب الخامس عشر بين أسباب الوفاة للبشر عموماً في جميع الأعمار، فإنه يأتي كثاني سبب عندما يخص الأمر شريحة الشباب والمراهقين.

لا ترتفع معدلات الانتحار بين الشباب في العالم الغربي فقط، ولكنها ترتفع بالوتيرة ذاتها في المجتمعات الشرقية، وقد أظهرت بيانات أجهزة الإحصاء الوطنية ارتفاعاً في تلك المعدلات في السنوات العشر الأخيرة في كل من مصر، وتونس، والسعودية، والهند، ودول أخرى كثيرة.

تشكو الحكومة الأميركية من ارتفاع "مقلق" في معدلات انتحار الفتيات بين 10 إلى 14 عاماً، من نصف شخص لكل مئة ألف في عام 1999 إلى 1.5 شخص لكل مئة ألف في 2014، بنسبة زيادة 200%.

ويتفق باحثون على أن كلمة السر في ذلك الارتفاع المطرد ليست سوى "التنمر السيبراني" Cyber Bullying، الذي يستهدف خصوصاً الشباب في تلك الشرائح، والذين لا يمتلكون القدرة والحماية اللازمة لمواجهة الضغوط المتولدة عنه.

ثمة عديد الإيجابيات لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي لليافعين؛ ومنها التفاعل، وبناء العلاقات الجديدة، وتوسيع المدارك، والتبادل الثقافي، والحصول على المعلومات، واستيفاء المتطلبات الدراسية، لكن في المقابل هناك سلبيات ومخاطر بدأت تقلق مراكز البحوث والحكومات، بعدما بات مستقراً في النسق البحثي والمعرفي المتعلق بتلك المواقع، أنها "قادرة على أن تتحول إلى منصة للتنمر"، وأن "التنمر مرتبط بالسلوك الانتحاري" لدى شرائح اليافعين، كما يؤكد "المركز الأميركي للوقاية من الإصابة".

ويُعرّف "التنمر السيبراني" باليافعين، بأنه محاولة لاستغلال تقنية الاتصالات والمعلومات للوصول إلى أهداف إجرامية بحق صغار السن، عن طريق الرسائل العدوانية، والإفصاح عن المعلومات ذات الطبيعة الحساسة، وتعمد الإهانة، والسخرية، والمضايقة، والإحراج.

يصف بعض الباحثين "التنمر السيبراني" بأنه نوع من "البلطجة الإلكترونية"، التي تتضمن وسائل شتى؛ منها التسخيف، وإرسال الصور الإباحية، وتركيب الصور عبر وضع وجه المُتَنمَر به على جسد عارِ أو جسم حيوان، وغيرها من الممارسات، التي تؤكد الدراسات أن 42% من اليافعين الناشطين على مواقع "التواصل الاجتماعي"، في الولايات المتحدة، يتعرضون لها.

يعتقد الباحثون على نطاق واسع أن "العزلة" العائلية التي يسببها الانخراط في أنشطة "السوشيال ميديا" للمراهقين، والتي تبقيهم بعيدين عن أعين أوصيائهم، أحد أهم أسباب تفاقم أثر الضغوط والتهديدات الآتية عبر تلك المواقع؛ إذ تشير دراسات موثوقة إلى أن 4 من أصل كل 6 من الأهل ليس لديهم أي فكرة عما يفعله أولادهم على "الإنترنت" في الولايات المتحدة، وأن 50% من المراهقين الذين يستخدمون الشبكة في أوروبا لا يتمتعون بأي إشراف أو رقابة من الوالدين.

يبدو أن لدينا طبقة جديدة من الانتحاريين؛ وهي طبقة تنشأ بين جنبات حياتنا الاجتماعية، التي تركت أبناءنا يعانون الانعزال والوحدة، بلا دعم أو مساندة في مواجهة وحش جديد يُدعى... "التنمر السيبراني".

ورغم النتائج المقلقة التي تفتقت عنها البحوث الغربية بخصوص طبقة "انتحاري السوشيال ميديا"، فإننا ما زلنا نفتقد إحصاءات ودراسات مماثلة، وهو أمر سيكون له أثر خطير، يماثل تماماً الخطر الناجم عن ترك أبنائنا لعبث "الإنترنت" من دون رعاية ومتابعة.

* كاتب مصري

back to top