من الذرائع التي تكرر سماعها في تبرير ضعف مشاركة بعض الناس في إسناد إضراب الأسرى أو الفعاليات الوطنية بشكل عام، ذريعة أن هموم المعيشة اليومية تشغل الناس الذين تكافح أغلبيتهم للنجاة في وجه غلاء معيشة يستفحل ويتعاظم يوميا.

ورغم قناعتي بأن الكفاح من أجل ضمان معيشة العائلة لا يعوق القدرة على المشاركة في العمل الوطني، بدليل كمية الوقت التي يقضيها الكثيرون في أعمال متنوعة غير العمل اليومي، لا بد من توضيح الارتباط بين ما نعيشه من غلاء فاحش ومسبباته السياسية.

Ad

يمكن أن تقسم مسببات وحش الغلاء والأزمة الاقتصادية الى سببين: أحدهما ذاتي يتعلق بالخيارات الاقتصادية الفلسطينية، والثاني موضوعي يتعلق بما يمارس ضد الشعب الفلسطيني من نظام احتلال وتمييز عنصري.

موضوعياً يعاني الشعب الفلسطيني تدهورا مزمنا في اقتصاده بسبب سياسات الاحتلال المتمثلة بخمسة أسباب رئيسة:

أولا: الاستيلاء الصهيوني على الأرض والمصادر الطبيعية

فحرمان الشعب الفلسطيني من حق البناء والاستثمار على أكثر من 70% من أراضي الضفة والقطاع أدى الى رفع خيالي في أسعار الأرض بما ينعكس على أسعار البيوت وأسعار السلع والخدمات بطبيعة الحال، هذا عدا فقدان قيمة الأرض نفسها التي تتحول إلى دعم الاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي وخصوصاً المستوطنين، على سبيل المثال تبلغ قيمة الأراضي التي سرقتها إسرائيل بالضم والاستيطان من منطقة بيت لحم وحدها (وهي من أصغر المناطق) نحو 30 مليار دولار وظفت لدعم قطاع البناء الإسرائيلي.

ثانيا: الاستيلاء على المياه

استولى الاحتلال على ما لا يقل عن 86% من مصادر المياه في الضفة الغربية والقدس، فمن نحو 926 مليون متر مكعب من مصادر مياه الضفة الغربية تأخذ إسرائيل 800 مليون، وعند التوزيع يحصل الفلسطيني في المعدل على ما لا يزيد على 50 متراً مكعباً للفرد من المياه سنويا في حين يحصل المستوطنون على 2400 متر مكعب للفرد سنويا، أي ما يوازي 48 ضعفاً لما يحصل عليه الفلسطيني من مياه الضفة الغربية.

أما في غزة المحاصرة فإن نسبة ملوحة المياه أو تلوثها تصل إلى 96% من المياه الجوفية، ويصبح الحصول على المياه النقية هناك أمرا مكلفا ومرهقا في الوقت نفسه، وتعاني معظم مناطق الضفة الغربية انقطاع المياه في الصيف لأسابيع، وقد تصل إلى شهور في بعض المناطق، لأن حكومة الاحتلال توجه المياه أولا للمستوطنات.

ثالثا: التفاوت في الدخل والسيطرة على الأسعار

إذ يصل متوسط دخل الفرد في إسرائيل إلى 38 ألف دولار سنويا، وهذا يعني أن متوسط دخل عائلة من أربعة أفراد يساوي 52 ألف دولار سنويا، في حين أن متوسط دخل الفرد في الضفة الغربية لا يتجاوز ألفي دولار سنويا ولا يتجاوز في قطاع غزة ألف دولار للفرد سنويا.

هناك دول عربية لديها مستوى دخل الفلسطينيين نفسه لكن أسعار بضائعها تبقى متناسبة مع مستوى دخلها، أما في فلسطين فإن دولة الاحتلال تفرض بالقوة وحدة السوق ووحدة الضرائب (مستوى ضريبة القيمة المضافة متساو تقريبا ولا يسمح بأن يتجاوز الفرق بين نسبتها في إسرائيل عنه في الأراضي المحتلة 1.5%).

وتسيطر دولة الاحتلال كذلك على الحدود وعلى الواردات والصادرات، وبالتالي فإنها تفرض وحدة الأسعار، أي وبكلمات أخرى فإن البضائع تباع للفلسطينيين بقيمة بيعها نفسها للإسرائيليين رغم أن دخل الإسرائيليين أكبر من دخل الفلسطينيين بنحو عشرين مرة، أي أن الفلسطيني يدفع بالتناسب عشرين مرة أكثر مما يدفعه الإسرائيلي ثمنا للبضاعة نفسها، وما يزيد الطين بلة أن الفلسطيني يدفع ضعف ما يدفعه الإسرائيلي ثمنا للمياه والكهرباء.

رابعا: إن تحسن الوضع الاقتصادي يرتبط بحرية الاستثمار وحرية التنقل وحرية التصدير والاستيراد وحرية جذب الاستثمارات الخارجية، وحرية تخفيض الضرائب لتشجيع النمو الاقتصادي، وذلك كله محرم على الفلسطينيين بسبب الاحتلال، وبسبب الاتفاقات البائسة والجائرة كاتفاقي باريس الاقتصادي واتفاق أوسلو السياسي.

ولا بد من تذكر أن 70% من دخل الضرائب التي يدفعها الفلسطينيون يمر عبر الحكومة الإسرائيلية، التي تأخذ عمولة تصل الى 3% من قيمة هذه الضرائب، وتتحكم في تحويلها كما تشاء، إذ تستطيع احتجازها بالكامل كما فعلت أثناء عهد حكومة الوحدة الوطنية، أو أن تستولي على أجزاء كثيرة منها بحجة تسديد ديون تقوم باحتسابها كما تشاء.

خامسا: استغلال العمال الفلسطينيين من خلال التفاوت في الأجور أو الحرمان من الخدمات الصحية والتعليمية ومخصصات الضمان الاجتماعي، وبالطبع فإن الاستغلال يصل ذروته ضد العمال الذين يعملون بدون تصاريح عمل وعددهم نحو 50% من العاملين في إسرائيل والمستوطنات.

لكل ذلك فإن النضال ضد غلاء المعيشة وضد التمييز الاقتصادي لا يمكن فصله عن النضال ضد الاحتلال ومنظومة التمييز العنصري الإسرائيلي، فلن تكون عدالة اقتصادية بدون حرية سياسية واستقلال عن منظومة الاستغلال الإسرائيلي.

أما الاسباب الذاتية المتعلقة بالسياسات الاقتصادية الفلسطينية نفسها فتحتاج الى مقال آخر، لكن عنوانها هو آليات توزيع الموازنة المتحققة من دخل الضرائب التي يدفعها الفلسطينيون، والسياسة الخطيرة والكارثية التي اتبعت بإغراق الناس في القروض الباهظة لتشجيع أنماط استهلاكية غير منتجة، مما جعل مئات الآلاف بل ربما الملايين أسرى لقروض البنوك، وعاجزين عن التفكير إلا في كيفية سداد القروض التي طوقت أعناقهم بها، وتدبير أحوال معيشتهم من شهر إلى شهر ومن راتب إلى راتب.

وللحديث بقية.

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية