«تعال معي إلى الكونسير 2»

نشر في 08-05-2017
آخر تحديث 08-05-2017 | 00:00
 فوزية شويش السالم لجمال وأهمية ما كتبه يحيى حقي في كتاب "تعال معي إلى الكونسير"، وجدت أن القسم الثاني منه يستحق أن يُكتب له مقال آخر، خصوصاً في شرحه وتعريفه للفرق ما بين قائد الأوركسترا والفرتيوزو فيقول: "هو أرقى من طراز قائد الأوركسترا في نظرتي -خذني على علاتي- فقائد الأوركسترا يعبر عن نفسه بلسان غيره، أفراد الأوركسترا هم الذين يترجمون همهمته إلى كلام فصيح، له العذر عند التقصير بنسبته إلى الأوركسترا إلى مستواه أو إهماله في التدريب، أما الآخر فيعبر عن نفسه بنفسه، هو المسؤول وحده عن الأداء، ولا يصل إلى مرتبة الفرتيوزو إلا ندرة من العازفين، وقد يقضي العازف عمره كله في التمرن فلا يبلغها"، وهذه المعلومة لم أعرفها من قبل لجهلي بثقافة الموسيقى الكلاسيكية، ولم أفهم من قبل أن لعازف البيانو دوراً مهماً ومسمى خاصاً تبز أهميته عن قائد الأوركسترا، وأنه لا يصل إلى مرتبة الفرتيوزو إلا النابغة، والغريب كما ذكر يحيى حقي أن الأغلبية الساحقة من الفرتيوزو من الطائفة اليهودية، ويقول عن ذلك: "مازلت إلى اليوم حائراً في تعليل انفراد هذا الشعب العجيب المتعب للدنيا -كأن لا هم لها إلا همه- بهذه الموهبة، فما معنى هذا؟ هل موهبة اليهودي تعجز عن الخلق وتقف عند حد استغلال مواهب الآخرين؟ هل لأن العزف حرفة بجانب أنه فن يتطلب لإجادته من الصبر والإصرار ما لا يقدر عليهما إلا يهودي رضع مع اللبن معنى الصبر والإصرار؟ هل لأن سبيل الخلق مغلق في وجوههم فلم يبق لهم نفوذ إلا من باب إجادة الخلق؟ فأنت ترى أنني مازلت حائراً في تعليل تفوق اليهود في العزف دون التلحين، والغريب أن حالهم في الموسيقى الشرقية هو على العكس، فقد نبغوا في تلحينها وعزفها معا (عندنا البزري، وإبراهيم سهلول، وزكي مراد، وأستاذ الأساتذة داود حسني)، أفيكون في اليهودي مهما تغرب عرق شرقي مندس؟! "كما أن هناك تعريفات أدبية يجب ذكرها لقوة تعريفه وفهمه لها"، فمثلا حين يقول: "لا أدري هل أصيب أم أخطئ إذا زعمت أن الشعر العربي هو وحده دون أقرانه في الأمم الأخرى قد ارتبط مولده بالإنشاد، إنه رسالة من لسان إلى أذن، لا من قلم إلى عين، هيهات أن يتبين لنا إلا إذا قرأناه -حتى ونحن في صمت- قراءة إنشاد ينتقل فيها اللسان من الفم إلى الضمير، وهذا سر جماله ومكمن ضعفه أيضاً، فمن شأن هذا الارتباط أن نرجح كفة العاطفة على كفة الفكر، والتتابع على التركيب، والخطابة على النجوى".

ونأتي إلى الجزء الخاص بفن "سيد درويش" وهو لا يعتبره ظاهرة فذة منفصلة عن ظاهرة "مختار" في النحت، وظاهرة "بيرم" في الأدب الشعبي، وظاهرة المدرسة الحديثة في القصة، كلها نتاج ثورة سنة 1919 التي كشفت عن وجه مصر ووجه الشعب ورغبته في التعبير عن فن وأدب ينبع منهما، وقادر على عكس حالهم والتعبير عنهم.

ويقول عن سيد درويش: "مازلت أقف أمام هذه الظاهرة مندهشاً، معجباً، حامداً شاكراً للقدر السعيد الذي جاء بها علينا، ظاهرة انفجار موهبة سيد درويش في الرسم الكاريكاتوري بالألحان، يوم التقى بنجيب الريحاني وبديع خيري على مسرح كشكش بك، ووضع بديع خيري نصوص هذه الكلمات بأزجال سهلة، لا تخلو من قفشات خفيفة الدم، ولكن هيهات للنص المكتوب الذي تقرأه العين والفم مطبق، أو يتلى "حاف" بدون نغمة أن يمد سلكاً مكهرباً بينه وبين قلبك، فلابد أن تدب في هذا النص ألحان نغمة معبرة، تنكش معانيه حتى تتجلى بقوة، بفضل هذه النغمة ستحفظ النص بسرعة، وستجده حلواً في فمك رغم أنه ماسخ في بعض الأحيان، تولى سيد درويش مد هذا السلك المكهرب، ما أكبر فضله علينا! إنه لم يقدم للشعب نصوصاً يتغنى بها فحسب، بل عمر قلوب أبنائه جميعاً بهجة مشعشعة بعد أن انتشرت هذه الأغاني الجماعية بينهم كالحريق".

كتابة يحيى حقي لا يُمل من قراءتها، فهو مدرسة عظيمة لفهم كيفية الكتابة والتعبير ببساطة وسهولة، وبذات الوقت نفاذ الرؤية وعمق التحليل، والقرب الشديد لحد التماس مع قلب وعقل وروح القارئ.

back to top