«العامل»!
أمر طبيعي أن يثير فيلم حفيظة الملك «فاروق» وغضبه، فيأمر وزير داخليته (فؤاد سراج الدين آنذاك) بمصادرته، وإيقاف عرضه، لكن تكمن المفارقة المثيرة، بكل تأكيد، عندما نعرف أن الفيلم لا يتحدث في السياسة بشكل مباشر، وهو المعتاد في مثل هذه الحالات التي تثير غضب واستنكار الرؤساء والملوك ضد فيلم ما، لكنه يتعرض لطبقة العمال، ويتناول مشكلاتهم مع أصحاب المصانع والأعمال!هذا ما حدث في فترة الأربعينيات، مع فيلم يحمل عنوان «العامل» (1943) كان باكورة إنتاج شركة «أفلام مصر الحديثة»، التي يملكها حسين صدقي، وكتبه مع محمد عبد الجواد، بينما أخرجه أحمد كمال مرسي. تدور أحداثه حول البطل «أحمد» (حسين صدقي)، الذي يدفع ثمن وقوفه مع العمال، ودفاعه عن حقوقهم، في مواجهة صاحب المصنع الرأسمالي الذي يتربص به، ويسعى إلى تلويث سمعته، ما أثار احتجاج العمال، الذين مورست ضدهم إجراءات عنف وإرهاب قوية، ودفعهم إلى تكوين جمعية سرية لمواجهة صاحب المصنع، تولت الدعوة إلى الإضراب العام. ولم يكتف أصحاب الفيلم بهذا، بل أوردوا مشهداً لعامل أصيب أثناء العمل، وتم فصله من دون تعويض، كان سبباً في صدور قانون يقضي بإلزام صاحب العمل بتعويض العامل عن إصابته أثناء العمل. كذلك وضع الفيلم مشكلة التأمينات على مائدة البحث، في انحياز جريء إلى العمال الذين استولوا على المصنع في الفيلم، وانتصار غير مسبوق للطبقة العاملة، وهو ما لم يرق للملك «فاروق»، الذي أمر وزير داخليته في ذلك الوقت بوقف عرض الفيلم، قبل أن يتدخل عبد الحميد عبد الحق، وزير الشؤون الاجتماعية في تلك الفترة، وينتزع الموافقة على عرضه بعد حذف عدد من مشاهده!
واقعة مثيرة نستعيد وقائعها بمناسبة الاحتفال العالمي بعيد العمال، ونبرهن من خلالها، بالدليل القاطع، على حجم التأثير القوي للسينما، فضلاً عن الدور الحيوي، والمهم، الذي تقدمه، في ما يتعلق بالقضايا الواقعية، والهموم الحياتية، والفئات، والطبقات، الاجتماعية المتباينة، وإن ظلت صورة «العامل»، كما قُدمت على الشاشة، رهناً بالظروف المجتمعية، والاقتصادية، والسياسية، ما جعل السينما تتأرجح، صعوداً وهبوطاً، في الاقتراب من همومه الحياتية، أو تتطرق إلى معاناته اليومية، وتتردد كثيراً قبل أن تجعله محوراً لحديث أو مناقشة، وتتعامل معه تبعاً لاهتمام «النظام»!في العام التالي مباشرة، قدَّم يوسف وهبي «ابن الحداد» (1944)، الذي ركز على الجانب الإنساني للطبقة العاملة من خلال المهندس «طه» ابن العامل البسيط، الذي اهتم والده بتربيته، وتعليمه في الخارج، حتى صار مهندساً ومالكاً لمصانع عدة، التي أحبه عمالها، وعقب زواجه، وهو الشاب العصامي، من ابنة أحد الباشاوات، وأغدق عليها، وعلى عائلتها، المال بغير حساب، استغلوه وخدعوه، وأهملوه، واحتقروه، قبل أن يفاجئ الجميع بإشهار إفلاسه، وانتقاله مع زوجته وابنته للعيش في غرفة متواضعة بمنطقة شعبية، كما اضطرا إلى البحث عن عمل، ولما أيقن أن الزوجة تعلمت الدرس، عاد ليُعلن للجميع أنه لم يفقد ثروته، ومصانعه!هكذا بدت الصورة في زمن ما أطلق عليه «مجتمع النصف في المئة»، حيث الإقطاع، وأصحاب رأس المال، ممن تحكموا في مقدرات البلاد، وثرواتها، وانعكست الحال على السينما «مرآة المجتمع» في شكل تراجع حاد لصورة «العامل» على الشاشة، حتى يمكن القول إن عدد الأفلام التي اتخذت من «العامل» محوراً لأحداثها لم تكن لتزيد على فيلم في العام، غالبيتها لا تتخذ من المصنع مسرحاً لأحداثها، وإنما كانت تتخذ سلسلة المتاجر اليهودية الشهيرة أو محلات «الميني فاتورة» واجهة لها ولعمالها، الذين كانت تسميهم «المستخدمين»، كما في «العزيمة» (إنتاج 1939) و«لعبة الست» (إنتاج 1946). لكن الحال تغيرت مطلع الأربعينيات، عندما اختار بعض الأفلام «الورشة» بدلاً من «المتجر»، واستمر غياب «المصنع»!القراءة المتأنية لأفلام تلك الفترة تؤكد أنها كانت تستهدف التغييب، والإبقاء على الأوضاع كما هي، والأهم الحيلولة دون دفع الناس إلى الثورة أو التمرد، مع الإيحاء الدائم بأن «السعادة ليست في جمع المال وإنما في الوفاء» (فيلم «لعبة الست») و«السعادة في الاقتناع بما قسم الله من رزق» (فيلم «الأسطى محروس»)، بل إن غالبية تلك الأفلام كانت تحرص على عقد مصالحة بين الطبقة الأرستقراطية، وأصحاب رأس المال، وبين الطبقة الشعبية، والعمال على وجه التحديد، وتكريس مقولة إننا مجتمع زراعي وليس صناعياً، مع الإيحاء الدائم، بطرف خفي، بأن التعاون بين الفقراء والأغنياء فيه صلاح الأمة!