الطوائف الدينية التاريخية أسبق وجوداً واستيطاناً في بلاد الرافدين ووادي النيل، لكنها اليوم مستهدفة في بقائها ووجودها وفِي معابدها وكنائسها من جماعات الكراهية والإرهاب، كانت مشكلة الطوائف في الماضي مشكلة حدود وقيود، وأصبحت اليوم مشكلة بقاء ووجود، عانت هذه الطوائف، في ظل الخلافة التاريخية، ممارسات غير عادلة وأشكالاً من التمييز والتهميش سواء من السلطة السياسية أو المجتمع.

ومن يراجع كتاب "أحكام أهل الذمة" لابن القيم يرى ممارسات تاريخية يستنكرها اليوم، لأنها لا تتفق وأحكام القرآن الكريم في حسن معاملة أهل الكتاب، لكن تلك الممارسات الماضوية محكومة بزمانها، حيث سلطة الدولة لم تكن مبنية على قاعدة المواطنة المتساوية، بل الرابطة الدينية فحسب، على أن تلك الممارسات لم تقتصر على غير المسلمين، بل شملت المسلمين أيضا، مثل: المرأة والرقيق وحتى المسلم العادي الذي كان مهمشاً محروماً من المشاركة.

Ad

وما كان حاصلاً في المجتمعات الإسلامية كان حاصلاً في المجتمعات الأخرى كعرف دولي قبل ظهور مبدأ المواطنة ومواثيق حقوق الإنسان، وبخاصة أن العلاقات بين دولة الخلافة والدول غير الإسلامية كانت دائماً متوترة، مما جعل الفقهاء يقسمون العالم إلى دار سلام ودار حرب، إذ كانت الحروب هي القاعدة الحاكمة للعلاقات الدولية.

قد يكون للماضي مبرراته التي قد لا نرتضيها اليوم، كون القرآن الكريم أمرنا بالبر بأهل الكتاب "أن تبروهم وتقسطوا إليهم" مع أنهم لم يكونوا مهددين في وجودهم وأطفالهم وكنائسهم، فماذا نقول عن أوضاعهم اليوم وهم مهددون بالاختفاء من الشرق الأوسط، إما بالتهجير القسري أو الموت تفجيراً في كنائسهم وأعيادهم؟

بابا الفاتيكان زار مصر، وذهب إلى الأزهر ليعانق شيخه في أجواء المودة، ويشارك في مؤتمر السلام العالمي، ويطلق المؤتمر رسالة سلام، مؤكداً التسامح والتآلف والاتحاد في مواجهة العنف والكراهية والطائفية، كل هذه الجهود والمبادرات الإيجابية تساهم في تخفيف الاحتقان وتلطيف الأجواء، لكنها غير كافية في طمأنة المسيحيين وغيرهم على مستقبلهم وأولادهم.

الأرقام الإحصائية الموثقة عن تهجير الطوائف الدينية عن مدنهم وأوطانهم مروعة ومؤلمة بل مخجلة، لم يبق من المسيحيين في العراق إلا 250 ألفاً، وفي سورية 500 ألف، أما اليهود فقد رحلوا من أقدم وآخر مواطنهم اليمن، ومن بقي أصبح متوجسا على مصيره.

على امتداد السنوات السابقة، وبعد هجمات 9/11 الإرهابية، شهدت الأرض العربية مئات مؤتمرات حوار الأديان، وصدرت توصيات لو حظيت بالتطبيق لأمكن تحجيم ظاهرة التهجير والكراهية، لكن المحصلة النهائية لهذه اللقاءات كانت ضئيلة، وليس من الإنصاف تحميلها المسؤولية، ولا حتى المؤسسات الدينية التقليدية، لأن قضية قبول الآخر وغرس التسامح الديني والاجتماعي والسياسي مسؤولية مجتمعية في الأساس، تتحملها الدولة الوطنية التي أخفقت، ومنذ الاستقلال وعلى امتداد 7 عقود، في إدارة التنوع المجتمعي، بما يعزز مبدأ المواطنة الذي يجعل جميع المواطنين شركاء في وطن واحد بغض النظر عن الدين أو المعتقد أو الجنس أو اللغة أو الأصل، وبما يحقق اندماج وصهر المكونات المجتمعية الدينية والمذهبية والعرقية، وتعايشها طوعاً كما حصل في الدول المتقدمة، لأن الدولة الوطنية وقعت أسيرة أيديولوجيات عقيمة: في زمن القوميين كانت الرابطة القومية تعلو كافة الروابط الأخرى، وجاء الاشتراكيون لتعلو الرابطة الاقتصادية والاجتماعية التي تجمع الطبقة الكادحة، وتبنى الإسلاميون الرابطة الدينية التاريخية.

وهكذا ظلت العناصر التفكيكية تعمل عملها في عمق البنية المجتمعية، تزرع الكراهية وعدم قبول الآخر وتهدم مفهوم المواطنة لتطفو إلى السطح، في أوقات الاضطرابات وضعف الدولة وسقوط هيبتها، فتنطلق الغرائز العصبوية، ووحوش الكراهية تفسد وتفجر وتدمر، كما حصل في أعقاب الربيع العربي وإلى اليوم.

أخيراً: ترامب يعلن عزمه زيارة عواصم الديانات الكبرى: الرياض، تل أبيب، الفاتيكان، ليلتقي بقادة دول إسلامية، لوضع أساس جديد لمكافحة الإرهاب، العالم كله معني بحماية الطوائف والأقليات عندنا وتأمين مستقبلها، لكن ذلك أساساً هو مسؤوليتنا، فهل نقوم بواجبنا تجاه تأمين مستقبلهم؟

* كاتب قطري