الأحداث الكبرى عادة ما تحتاج إلى فسحة كبيرة من الوقت، كي تختمر وينجلي غبارها. هكذا ترى مراكز الوثائق السياسية الأمر، فلا تطلق سراح ما تمتلك من وثائق للنشر والاطلاع إلا بعد مرور ربع قرن، أو أحياناً نصف قرن. ولعل الأمر ذاته ينطبق على معالجة تلك الأحداث الكبرى روائياً، كمحنة غزو الكويت، أو ثورة يناير في مصر، أو الحرب الأهلية في لبنان... إلخ. فالحاجة إلى اختمار الحدث ورؤيته عن بُعد، ثم البحث في آثاره وإفرازاته، يُعدان ضرورة من ضرورات إنشاء العمل الروائي، بعد انجلاء الغبار ووضوح الرؤية. وعليه، فالأعمال المتسرعة غالباً ما تأتي مشوشة، أو ناقلة لجزء من المشهد، أو في أسوأ الأحوال يغلب عليها طابع الارتجال وسَورة العاطفة.

وحسناً فعل عبده خال، حين كتب روايته (نُباح) حول آثار الغزو العراقي على المنطقة بعد ثلاثة عشر عاماً من وقوع الحدث. والرواية تُعد من الأعمال النادرة –عربياً - التي أضاءت موضوع الغزو وإفرازاته، إذا استثنينا ما كتبه الروائيون الكويتيون. وأهمية (نباح) تكمن في اجتهادها في تصوير دور الغزو وأثره في الانقسامات والاصطفافات ونمو بذور الأحقاد والفرقة التي عانتها منطقتنا على وجه الخصوص، حين دارت أحداث الرواية وشخوصها بين جِدّة السعودية وعدن اليمنية، وما بينهما.

Ad

تأتي الفوضى التي أحدثها الغزو الصدامي على عدة أشكال، منها التهجير أو الهجرة الطوعية لليمنيين، ودخولهم في صراعات ظاهرة أو خفية في مناطق إقاماتهم في المدن السعودية. ومنها تمزيق أواصر القرب والجيرة ونمو بوادر الإحن والمشاحنات مع المقيمين من شتى الجنسيات. ومنها فقدان الأمن المكاني والنفسي، بعد أن كثُر المحتالون والانتهازيون من تجار الحرب، كشخصية «توفيق» الذي كان يبيع لسكان جدة القلقين بضائع يدّعي أنها تحمي من الغازات السامة... إلخ. ويبدو أن هذا الكمّ من الفوضى المدمرة هي التي جعلت الكاتب يهدي روايته المرّة «لكل أوغاد العالم» مع إضافة «لعنة كبيرة» يستحقونها بلا شك.

ولكي تأخذ كل هذه الهموم شكل الواقع الإنساني، جعل الكاتب بطل روايته يتحدث بلسان المتكلم طوال فصول الرواية. والراوي هو الصحافي السعودي الذي يشهد ماضيه وحاضره، ويمزجهما معاً كسوائل اختلط مرّها بحامضها بماسخها، حتى لم يبقَ من حلوها غير شذرات مشكوك في جدواها حين تلوح كذكريات باهتة.

ويبدو أن تلك الذكريات كانت الشرارة المتوارية التي أوقدها سفر «الراوي / الصحافي» إلى اليمن لحضور مؤتمر، لتنثال بعد ذلك ذكريات الصبا في «جدة»، وذكريات الحب المتعثر العابث لفتاته اليمنية ابنة الجيران، قبيل وإبان الحرب. ولأنه اعتقد أن حكاية الحبيبة معه لم تنتهِ برحيلها وأسرتها من جدة إلى اليمن أثناء الحرب، فقد أغراه التوق وما تبقى من فضول لمعرفة مصيرها بعد مرور سنوات طوال على رحيلها.

وهكذا تتأسس الرواية على مسألة البحث المضني عن الفتاة أثناء وجود الراوي في اليمن. وخلال رحلة البحث يجد الراوي نفسه وجهاً لوجه مع ماضيه المرتبك، بل مع شخوص ذلك الماضي مثل «غلام» الهندي و»شفيق» المحتال وغيرهما ممن لا يحمل لهم في قلبه غير الضغينة والنفور. وحين يجد الفتاة أخيراً تنهار كل رؤاه الوردية حولها، بعد أن وجدها في بيت للدعارة يديره «غلام» الهندي، ووجدها إحدى ساكنات ذلك البيت، تبيع فيه بضاعتها.

وقد لا يخفى على القارئ وهو يمرّ بكل تلك التفاصيل عن علاقات متوترة ونفوس خربة وأجواء ملطخة بالسواد، قد لا تخفى عليه الإسقاطات السياسية الواضحة على أوضاع المنطقة وغرقها في الوحول الأخلاقية، عقب ضياع أحلام الوحدة والتنمية بعد الغزو العراقي وإبانه.

ولعل الفصل الأخير هو خير ما يوضح تلك الانهيارات النفسية، حين يستجيب الراوي لطلب المرأة (فتاته السالفة)، بأن ينسب طفلها غير الشرعي لاسمه في ورقة رسمية، رغم أنه لم يرها إلا في تلك اللحظة! يفعل ذلك في حالة من الغيبوبة والذهول، وفي بيت الدعارة ذاته. وهكذا، تفعل القلاقل السياسية فعلها في تشويه النسق الثقافي والاجتماعي، فارضة هذا اللون من العلاقات الإنسانية المريضة التي ستحتاج زمناً طويلاً للتعافي من جروحها وانكساراتها.