مهى جرجور: كتاباتي تحمل همّ التلاقي مع الآخر وتؤطر صوراً من المجتمع اللبناني
روائية وقاصة وباحثة، أستاذة متفرغة في قسم اللغة العربية في الجامعة اللبنانية، تعمل د. مهى جرجور بلا كلل، على الجمع بين أصالة اللغة العربية والتطور الحاصل في التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، وتحمل في مؤلفاتها، سواء الأدبية أو القصصية أو البحثية، همّ الحفاظ على جمالية اللغة العربية وتوظيف الوسائط التكنولوجية في خدمتها، متوجهة إلى الأطفال والشباب بأسلوب موضوعي ومنطقي يحاكي واقعهم وخيالهم في آن، ويرتقي بتفكيرهم إلى الجوهر بعيداً عن أي تشويش مفتعل وانحراف في التفكير إلى أماكن تزعزع علاقة هؤلاء ببيئتهم ومجتمعهم. هذه النقطة بالذات هي الخيط الذي يربط مؤلفات د. مهى جرجور المختلفة، باعتبار أن العلاقة الصحية مع المجتمع تعمّق كيانه وتعزز هويته.
{الأدب في مهب التكنولوجيا}: كتاب نقدي عالجت فيه أشكال الأدب الرقمي وقيمه ورؤاه (2016). كيف تحددين العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا، وهل يمكن أن تلتقي التكنولوجيا الجامدة بالأدب النابع من الروح؟أرى أنّ العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا باتت وطيدة، كون التكنولوجيا بأدواتها دخلت يومياتنا، وبتنا نستخدمها للتعبير عن أحاسيسنا في المناسبات كافة، سواء أكان من خلال نشر الكلمة عبر الانترنت أم وسائل التواصل... بل أكثر يمكن دمج الوسائط المتعدّدة من صوت وصورة وحركة إلى جانب الكلمة في التعبير عن مختلف القضايا الروحية والمادية. وهذه العلاقة ستتوطّد أكثر فأكثر مع الأجيال التي تتربى على «الأي باد والأي بود» بدلاً من الورقة والقلم.
«التكنولوجيا في قلب العربية: دليل حول كيفيّة استخدام التكنولوجيا ووسائلها في تعليم العربية»، كتاب قيد الإعداد، ما الذي يدفعك إلى تأليفه؟ خشية على اللغة العربية من التكنولوجيا أم التأكيد على مرونة هذه اللغة في استقطاب مفردات جديدة؟فعلاً، هي الخشية على لغتنا، والحرص عليها، لأقول إنها قادرة على الصّمود، إذا بدلنا طرائق تعليمها، وحولنا وسائل التكنولوجيا من وسائل ترفيه وتسلية إلى أدوات مساعدة في التعليم، لإعداد طلاب يتكلمون الفصحى ويشعرون بفائدتها في عالم طغت الانكليزية عليه. ذلك أنّ اللغة هي ثقافة وهوية وانتماء، وإتقانها دليل صحة وعدمه دليل مرض حضاري.
شغف الكتابة
يحفل نتاجك الأدبي بمؤلفات قصصية ونقدية ودراسات، ما الذي يحث قلمك على أن يغوص في كل شكل من هذه الأشكال؟أنا في الأساس متخصصة في النقد الأدبي، لذلك، في بداية الأمر عملت على وضع مؤلفات نقدية، والمشاركة في عدد من المؤتمرات، التي تفترض تقديم البحوث. إلا أنّ هذا لم يبعدني عن شغفي الأول ألا وهو الكتابة القصصية التي أعوّل عليها كثيراً في التواصل مع القراء ولا سيما الشباب. لديك سلسلة «لم نعد صغاراً» الموجهة إلى المراهقين تحديداً، كيف تعاملت مع إشكاليات هذا العالم، وإلى أي مدى وازنت بين القصة وبين النصيحة والتوعية؟ الاشكاليات كثيرة ومتنوعة، وتعاملت معها بإيجابية، من منظور قبول الآخر، ومحاولة فهم وجهة نظره في تعاطيه مع الأمور. وحاولت إلى حدّ بعيد ألا أبدو واعظة في كتاباتي، لذلك تركت تقديم الحلول في القصص للشخصيات، فأتت من صلب العمل وليست زائدة عليه. صدرت لك حديثاً مجموعة قصصية في عنوان «بيت على الحافة»، وهي تعزف على وتر التشرد والرحيل وزعزعة أساس البيت، باختصار ترمز إلى تداعي الوطن، فهل هي توثيق اجتماعي لفترة معينة من مسيرة وطن؟ يمكن القول ذلك، مع أني لم أفكر في هذا عندما كتبتها، ولكنّ الأحداث في القصص كلها تعرض حالات اجتماعية نحياها يوميًّا في مجتمعاتنا بغض النظر عن الثقافة أو البيئة أو السّن. هي حالات عامة وخاصة في آن، تؤطر صوراً من المجتمع اللبناني تبرز هشاشته وضعفه على مستوى العلاقات الاجتماعية بين أبناء البيت الواحد.إلى أي مدى يستطيع الروائي أن يكون موضوعياً في التطرق إلى قضايا اجتماعية حساسة؟ وهل مطلوب منه ذلك أم مسموح للعاطفة بالتدخل؟ لا مجال للموضوعية هنا، وإلا تحوّل الأدب إلى لا أدب. الكاتب يكتب ما يشعر به، وما يرى إليه، وما يحسّ به، في مرحلة ما، تجاه أمر عاشه أو سيعيشه، أو سمع عنه وترك فيه تأثيراً معيّناً. والعاطفة هي المحرّك لقاطرة الكتابة.شمولية وتحليل
هل ثمة خيط رابط بين هذه المجموعة القصصية وروايتك «دخلت في التجربة» الصادرة في 2012؟أشكرك على هذا السؤال، الخيط موجود، ومتين، ويتمثل في البيت الذي يجسّد محور الرواية والمجموعة القصصية، وكيفية الحفاظ على تماسكه، ومنعه من السقوط والتداعي رغم كل الضغوطات النفسية والمادية، وما يفترضه هذا من تضحية وتنازل... وتالياً، تتجسّد الإشكالية في الإجابة عن سؤال: «من المسؤول عن منع البيت من السقوط؟ الرجل أم المرأة؟ أو كلاهما؟».أي وطن تبحثين عنه في مقاربتك شعر محمود درويش، وما الذي استخلصته من دراستك عنه في كتابك «قراءة في شعر محمود درويش: قصائده أغنية عودة أو نسيان- الدلالة الثانية»؟هو وطن السلام، وطن الحرية والضمانات، الوطن المفقود الذي سعى درويش إلى إيجاده في شعره ولم يجده. واستخلصت من دراستي شعره أنّ القيمة الوحيدة هي الحياة، لأننا نحيا مرة واحدة، وعلينا أن نتعلم كيف نعيشها بأقل أضرار ممكنة.في كتابك «الذاكرة والرغبة في الكتابة» تتناولين الصّراع داخل الذّات بين الرّغبة في الكتابة وتأثير المكان والزمان وصولا إلى الغرق في بحور النسيان والهلوسة... برأيك ألا يستطيع فعل الإبداع تخطي المحسوس والتحليق في فضاء الحرية بعيداً عن الزمان والمكان؟ الإبداع يولد في أحلك الظروف، إلا أنّه في بعض الأحيان يقف المكان بقسوته ليحدّ المبدع ويحوله من التفكير في التجاوز إلى التفكير في السعي خلف لقمة العيش، فيشعره بمحدوديته، وبلا جدوى ما يقوم به، ويحدوه إلى أن يتخلى عن كل شيء ما عدا اليومي والشائع. وتالياً، يؤثر المكان كثيراً في الشخصية، في بنيتها وطرق تفكيرها، وأنماط سلوكها وعاداتها، وكثيراً ما يكون عائقاً أمامها، إذ يقولبها بقوالب ثقافية واجتماعية وفكرية نادراً ما يتمكن من تجاوز حدودها كي لا يدفع الثمن غالياً.من أين استقيتِ هذه الشمولية في الكتابة بين الأدب والرواية والقصة والبحث والتحليل والدراسة؟ هذه الدراسات بعضها يحيل الى بعض، فتمثل طرائق عديدة في التعبير عن الهمّ الواحد، هم التلاقي مع الآخر أولاً، والرؤية إلى الأمور من منظور مختلف عن السائد والمكرر بهدف وضع نهايات مغايرة تكون أكثر إشراقاً وأملاً. ثم إن البحث يتحول إلى أسلوب حياة، وعادة يومية تثير في الباحث لذة مزدوجة لا تضاهيها أخرى: لذة الاكتشاف، ولذة الكتابة.إعداد باحثين
د. مهى جرجور على تماس مع الطلاب في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، باعتبارها أستاذة فيها ومشرفة على رسائل ماجستير، إلى أي مدى يغني ذلك تجربتها الإبداعية ويجعلها أقرب إلى جيل الشباب؟، تجيب: «من أجمل ما في التعليم الجامعي هو التعامل مع الطلاب ولا سيما طلاب الماستر، ومشاريعهم البحثية المتجددة». تضيف: «طبعاً هذا يغني تجربتي البحثية إلى حدّ كبير، ويجعلني في حالة بحث دائمة، حالة تواقة إلى معرفة المزيد. حتى إنني أرافقهم في كل مراحل بحثهم، ومن خلال توجيهي لهم أراهم وهم يتطورون، ويرتقون في بحوثهم، وألاحظ كيف تتغير شخصياتهم ما بين بداية مرحلة تحضير الرسالة أو أطروحة الدكتوراه ونهايتها. وهنا أقصد تغييرات جذرية على مستويات التفكير والتحليل والاستنتاج، وهذا أمر أسعد به وأفخر لأن عملنا الأساسي في التعليم في كلية الآداب هو إعداد باحثين من الدرجة الأولى».
اللغة ثقافة وهوية وانتماء وإتقانها دليل الصحة الحضارية وإهمالها علامة المرض