رفعت حملة الرئيس المقبل لفرنسا إيمانويل ماكرون الشعار "معاً من أجل فرنسا". ولمَ لا؟ فهو وسطي واضح جذب أصوات اليسار واليمين ليُنزل هزيمة كبرى بمارين لوبان القومية اليمينية المتطرفة يوم الأحد الماضي، وهكذا لم يصمد الوسط فحسب، بل ازدهر أيضاً.ولكن في إشارة إلى المشاكل التي تنتظر هذا الرئيس، لنتأمل واقع أن ربع الناخبين الفرنسيين لم يقترعوا في هذه الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، علماً أن هذا يُعتبر أحد أعلى معدلات الامتناع عن التصويت في تاريخ الجمهورية الخامسة في فرنسا، التي أسسها شارل ديغول عام 1958.
إذا أخفق ماكرون في الحصول على الأكثرية في البرلمان، فسيُضطر إلى تشكيل ائتلاف حاكم مع أحزاب أخرى، وإذا فاز حزب آخر بالأكثرية، فلا مفر من مواجهته حزباً منافساً في سيناريو يشير إليه الفرنسيون بالتعبير المجازي "المساكنة".انتمى الرؤساء في فرنسا خلال العقود القليلة الماضية إلى حزبَي اليمين الوسطي أو اليسار الوسطي الرئيسين، وقد مهّد انتصارهم في الانتخابات الرئاسية الطريق أمام فوز حزبهم بالأكثرية في البرلمان، مما أتاح للرئيس تعيين رئيس وزراء من حزبه ليدير الحكومة وفق رغبات الرئيس.لكن النظام الحزبي التقليدي في فرنسا انهار، وعادت مخاطر "المساكنة" والتعطل السياسي لتطل برأسها، وإذا آلت التطورات إلى سيطرة حزب معارض على الجمعية الوطنية، فلن يتمكن ماكرون على الأرجح من تطبيق أجندته السياسية الطموحة، التي تشمل خفض الإنفاق الحكومي ومنح الشركات مرونة أكبر للتوظيف، والصرف، والتفاوض مع الموظفين. أما إذا اضطر الرئيس الجديد إلى تشكيل ائتلاف من فصائل مختلفة فعليه أن يحشد بعناءٍ الدعم لكل عملية تصويت على كل تشريع، وكما ذكر فرانسوا فيون، المرشح الجمهوري الذي خسر من الجولة الرئاسية الأولى، في كلماته الشهيرة، سيُرغم ماكرون مراراً "على طهو أطباق برلمانية تبدو ضعيفة وحافلة بالتسويات"، علماً أن هذه الأطباق تُعتبر الأسوأ في المطبخ الفرنسي.في هذين السيناريوهين سيكون لانتخاب ماكرون تأثير معاكس لما رجاه داعموه: سيُضطر رجل انتُخب لتحقيق الإنجازات إلى النضال للمضي قدماً، وسيُرغَم رجل انتُخب للتفلُّت من الحزبين التقليديين على العمل بشكل لصيق معهما، ونتيجة لذلك قد تنمو الرغبة في التغيير السياسي وتتفاقم خيبة الأمل التي ولدتها الحكومة في نفوس الشعب.تتجلى هذه الحلقة المفرغة بوضوح في مختلف أنحاء أوروبا، حيث بدأ الاستياء من سياسات المؤسسة بإفراغ أحزاب اليمين واليسار الوسطية، مقسّماً المشهد السياسي إلى مجموعة من الأحزاب الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تتنافس لكسب النفوذ. أخبرني العالم السياسي روبن بيست عقب الانتخابات الهولندية: "كلما نما الانقسام، صعب على [الحكومات الائتلافية الهشة وغير المستقرة] تمرير أي نوع من البرامج السياسية المتماسكة، ونتيجة لذلك سيزداد الناخبون على الأرجح استياء، وسيميلون إلى الأصوات المعارضة وسياسيي التطرف السياسي". في المقابل إذا فازت حركة "إلى الأمام" بالأكثرية البرلمانية أو إذا قرر المشرّعون الجمهوريون والاشتراكيون التعاون بخلاف العادة، فقد يسير عهد ماكرون بسلاسة، إذ تشير المؤرخة ألين-فلورانس مانون إلى أن ديغول صمم الجمهورية الخامسة بطريقة تحول دون اعتمادها على الأحزاب السياسية، التي اعتبرها مصدر عرقلة وعدم استقرار، وتتابع موضحةً أن مؤسس الدولة الفرنسية العصرية "صمم الجمهورية الخامسة كنظام هجين يجمع بين مؤسسات نظام برلماني ومنصب رئاسي قوي كي لا تسبب الأزمات في النظام الحزبي بالضرورة أزمة في الحكومة".لا شك أن عهد ماكرون الرئاسي سيشكل "امتحاناً حقيقياً للجمهورية الخامسة كما تخيلها ديغول، فلم يسبق أن خضعت هذه الجمهورية لامتحان مماثل لأن النظام تحوّل إلى نظام حزبَين بحكم الواقع"، حسبما تضيف.تختم مانون: "صحيح أن هذه الجمهورية لم تواجه الامتحان طوال 60 سنة، إلا أن رؤية ديغول للجمهورية الخامسة ستصطدم اليوم على الأرجح بأزمة فعلية".* يوري فريدمان* «ذي أتلانتيك»
مقالات
هل بدأت أزمة فرنسا السياسية لتوها؟
11-05-2017