بمجيء الإسلام انقطع الوحي، وأصبح القرآن برنامج البشرية النهائي بكل ما يحويه من وصف وسرد وقصص وأحكام وتشريع، وهو المنهج التصحيحي والإصلاحي للأديان السابقة بأسلوب واضح وبسيط، والأهم أنه قدم الصورة الصحيحة النهائية للإله الواحد بذاته وصفاته، وبين علاقته بالإنسان والوجود، وأزال كل ما علق بهذه الصورة من تشوهات وزيادات عبر الزمن، واستطاع أن يرسخ لدى المسلمين تلك الصورة الناصعة دون زيادة أو نقصان.

وظل القرآن يحث المسلمين على التمسك بالفطرة والبساطة وعدم تكرار ما كان يقوم به الأولون من معتنقي الأديان السابقة في الولوج إلى التفاصيل الدقيقة، وإدخال اجتهادات عقلية "ظنية" إليها، وكان سببا في ظهور أول خيوط الغلو والتطرف والتحريف عن المنهج الصحيح.

Ad

عندما يعرض الله لنا آياته في القرآن وفي ما حولنا من عجائب الصنع المتقن، لا يطلب منا أن نبحث في كنهها وكشف ماهيتها، وندخل في متاهات الفكر ودهاليز النظريات الظنية، بل لنصل إلى معرفته كخالق وإله في النهاية، ومن ثم نتعظ بها ونستمتع بجمالها وننعش قلوبنا وعقولنا.

إذاً الأساس في القرآن هو التركيز على الخطوط العريضة للحياة والوضوح والشفافية والابتعاد عن الغموض والتعقيد والخوض في التفاصيل إلا بقدر ما يخدم هدفه النهائي والأخير وهو الإنسان، ورغم أن الله ورسوله نهيا عن الخوض في التفاصيل "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ"، فإن بعض المسلمين الأوائل- سامحهم الله- حذوا حذو من كان قبلهم، وراحوا يخوضون في كلام الله ويتعمقون في تفاصيله ويؤولون معانيه وكلماته، ويفسرونه بعقولهم وخلفياتهم الثقافية المكتسبة بدون سند أو دليل مقنع.

دخلوا في غياهب فكرية وسياسية مظلمة وأدخلونا معهم، وما نراه اليوم من منازعات فكرية وعقدية بين الفرق الإسلامية المتناحرة التي لا حصر لها، ما هو إلا نسخة بائسة طبق الأصل لتلك التي شكلها وتركها لنا السلف الصالح، كالخوارج والسلفية والباطنية والشيعة والمعتزلة والمرجئة والدهرية والقدرية والمتصوفة والظاهرية ومئات الفرق الأخرى التي انتشرت في طول بلاد المسلمين وعرضها، وهي تبث سمومها في الجسد الإسلامي وتشكل الصورة النهائية المشوهة للإسلام في عقول المسلمين، والتي أصبحت راسخة لا تتزحزح حتى الآن.

* كاتب عراقي