ضحكت زميلتي في روضة قرية أبوحليفة، وأنا ابن الخامسة، أتذكر شعرها الأسود يهتز وهي تصدر صوتاً غير مفهوم يسمونه الضحك، يجلب السعادة لمن حولها، وهم يركضون بين الألعاب في ساحة مبللة، وأنا أصيد خنفساء الدعسوقة من ورق الشجرة.

"فجر" فتاة اجتماعية متهورة تمسكني بيدي لأندمج معهم، فأهرب إلى مكان دعسوقتي من جديد، رغم أن وجهها يشعشع سكنية، تذكر من يراها بالآيات الكريمة "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ"، وقوله تعالى "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ".

Ad

فسألت أمي لما أخرجتني عن "قوة فجر"، كما وصفتها، فردت أمي بسرعة "هي تضحك! حاول تضحك مثل العيال، عادي! تدري إن أستاذتك اسمها أم علي، والدعسوقة اسمها بلهجتنا الكويتية أم علي، شفت! كل شي بروضتك حلو اضحك". يا أمي فلذة كبدك تخرج من الجامعة، وما زال يسرح في ضحكة، فهل وصل إلى نتيجة؟ طالما أردت تحليل ماهية الضحكة، فآمنت أن سر المعاني يكمن في تركيبة كلماتها، فقد قالت العرب: القهقهة: صوت الضحك المسموع، وقالوا: التَّفَكُّهُ بَعْدَ الأَكْلِ: أَكْلُ الْفَاكِهَةِ، وخَرَجُوا للِتَّفَكُّهِ بِنَسِيمِ الصَّبَاحِ : للِتَّمَتُّعِ بِهِ، للِتَّلَذُّذِ بِهِ. وبهذه الدلالات اللغوية جاءت القهقهة والفكاهة كمشاعر لذيذة تطيب بها نفس الضاحكين ويشارك بعضهم بعضا بها، ولكن كيف تبرمجت الأدمغة على ذلك؟

فالبسمة صدقة سيكولوجية ذات فوئد طبية، وضحكة البريء الذي ينوي إدخال السرور على القلوب تحسن مزاجه بهرمون الأندروفين، لتخمد أي ألم يعانيه، وترفع مناعته، وتحميه من الخوف وتحسن أداءه العقلي، وتحدّ من ضغط دمه، وتشد جلد وجهه بعضلات خدوده بدون جراحة، فيزداد جمالا، وتقوى صحة قلبه وتتعزز شبابيته، فكم كان بهيا فتيا، رسولنا الهش البش، صلى الله عليه وسلم؟ ألم نتعلم من الحكيم حين قال "الضحك هو أحسن دواء؟!"، أما مجتمعيا فالضحكة هي أقصر طريق للشعبية وأبعد طريق عن محبة الناس إن كانت لغير الخير.

الطفل يثبت وجوده بالبكاء ثم الضحك الذي يستعمله لمن يعتني به، لإدراكه أنه محفز للمهتمين به أن يبادلوه ذات النشاط الدماغي ليشعر بحنان الولاء، فالضحكة تخلق "سيناريوا" مألوفا بينه وبين الكبير، فيتعلم أن الضحكة هي أحسن وسيلة للاندماج المجتمعي.

فالمولود لا يملك بينه وبين الناطقين غير أقوى تعبيرين لأقصى شعورين قطبيين: الضحك والبكاء، والدموع والانقباضات اللا إرادية هما السماء والأرض في عالم العواطف، فهما يحويان كل المشاعر في فضاء المسافة بينهما، ألم يشمل رب العالمين جميع مشاعرنا بقوله في سورة النجم "وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى"؟ ولكن لم تعد ضحكتنا بتلك البساطة حينما تنامت تعقيدات أدمغتنا مع تطورات عقد حبكاتنا المجتمعية، فعلى مستوى مقابلة عمل أو خطوبة أو مقابلة تلفزيونية، ضحكة واحد سيئة التزامن قد تفسد للود قضية.

لذلك حينما كبرت اشتقت للعودة إلى مكان تلك الدعسوقة لأتذكر نصيحة والدتي، إذ قالت لي معنى ثقيلا في ذاك اليوم الماطر، أرادت بها مسح دموعي، حيث علمتني وهي تترك دعسوقتي تتسلق بيدها الرحيمة، إن الذي أضحكنا وأبكانا قال لنا "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى"، وإن لنا أن نمضي بهذه الحياة ونحن مؤتمرون بقوله تعالى "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا"، فيا أبها القارئ الكريم، لنكن "فجر" سعادة لغيرنا إلى أن نجتمع مع جميع أحبابنا في فردوس الرحمن الرحيم.