التهديد الذي صدر في الآونة الأخيرة عن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية التجارة الحرة في أميركا الشمالية (النافتا) يعزز بشكل فعلي التوجه المرتقب للبيت الأبيض، ومنذ فترة حملته الانتخابية حتى مرور مئة يوم على وصوله إلى الحكم ركز ترامب بشدة على إظهار الجوانب السلبية في التجارة، وذلك من خلال تصوير نفسه بطلاً بالنسبة الى طبقة العمال في الولايات المتحدة.ولكن من حيث السياسة الاقتصادية فإن تلك الكلمات الاحتفالية– التي تطورت بسرعة الى الحديث عن الرغبة في "إعادة التفاوض" حول شروط التجارة مع المكسيك وكندا- تهدد بصورة خطيرة مسار الاقتصاد الأميركي في المستقبل.
وسوف يفضي تمزيق العلاقات التجارية مع هاتين الدولتين الى تعطيل سلسلة الإمداد العالمية، كما يعرض للخطر وضع المعامل في الولايات المتحدة التي تعتمد على القطع المستوردة في صنع أجهزتها ومنتجاتها، ويمكن أن يؤدي ذلك أيضاً الى زيادة تكلفة الأحذية والملابس والسلع الاستهلاكية الأخرى، فيما يقلص الاستثمار نتيجة الشك وعدم اليقين، إضافة الى التهديد بإجراءات انتقامية من جانب شركاء تجاريين، مما يطرح خطر إقامة حواجز في وجه الصادرات الأميركية، وأخيراً، قد تفضي مثل تلك الخطوة الى خسارة وظائف باسم المحافظة على فرص العمل في الولايات المتحدة.
النتائج السلبية
وتقول بيترا ريفولي، وهي خبيرة في الشؤون التجارية لدى كلية الدراسات التجارية في جورج تاون: "إن إقامة حواجز تجارية بين الولايات المتحدة والمكسيك ستلحق الضرر بالعديد من الأشخاص الذين يزعم دونالد ترامب أنه يسعى الى مساعدتهم. وفي وسعنا توقع ارتفاع أسعار العديد من السلع الاستهلاكية إضافة الى تأثيرات سلبية بالنسبة الى الكثير من الشركات التي تعتمد على المكسيك".وهذا لا يعني القول إن اتفاقية النافتا مقدسة، وقد انتقدها منذ زمن طويل خبراء الاقتصاد الذين دعوا الى تحديثها وتطويرها، وسبق أن جرت مفاوضات حول اتفاقية النافتا في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الأب، وتم توقيعها في عهد الرئيس بيل كلينتون في سنة 1993 قبل أن تصبح الشبكة العنكبوتية قوة تجارية. وهي تفتقر الى قوانين التجارة الإلكترونية، كما أنها كانت ضعيفة في ما يتعلق بحماية البيئة والعمل بصورة عامة، إضافة الى أنها تعطي الشركات متعددة الجنسية الحق في التقاضي من أجل المطالبة بتعويضات عندما تتسبب الأنظمة المحلية بأضرار تتعلق بأرباحها.وستوفر عملية إعادة تفاوض صادقة ونزيهة فرصة من أجل معالجة الخلل والثغرات، وكانت إدارة باراك أوباما أعادت التفاوض حول بعض الشروط التجارية مع المكسيك وكندا على شكل جزء من اتفاق إقليمي باسم الشراكة عبر المحيط الهادئ، وقد عزز ذلك الاتفاق إمكانية فرض مقاييس عمل وبيئة، فيما أضاف قوانين الى العصر الرقمي على الرغم من أنه حافظ على آلية تسمح للشركات متعددة الجنسية بالتقاضي.سياسة ترامب التجارية
تراجع ترامب عن مشاركة الولايات المتحدة في النافتا خلال الأيام الأولى من رئاسته، ومهما كانت الدوافع والنتائج فإنه عمل على تسريع إعادة تنظيم سياسة التجارة العالمية، كما أن قرار بريطانيا حول الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست) الذي أشاد به ترامب سيزيل من أوروبا لقب خامس أكبر اقتصاد في العالم، وهو ما يسمح للشركات ببيع منتجاتها من أيرلندا إلى اليونان من دون دفع رسوم أو ضرائب.وحتى قبل وصول ترامب الى البيت الأبيض تعرض اتفاق كبير للتجارة للخطر تفاوضت بشأنه إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، ويهدف الى تحرير التجارة مع أوروبا في ما يعرف باسم شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي.وقد هاجمت هذه الخطوة مجموعات عمالية في الولايات المتحدة وأوروبا؛ معتبرة إياها تهديداً لأمن العمل، وعلى جانبي الأطلسي جادل أولئك الذين كانت زيادة قوة الشركات تقلقهم في أن ذلك الاتفاق سيقوض السيادة الوطنية من خلال إعطاء الشركات متعددة الجنسية الحق في الحصول على تعويض لقاء أنظمة مكلفة ومرهقة.وعززت قناعات مماثلة معارضة اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي دعت اليها إدارة باراك أوباما على اعتبارها وسيلة من أجل توسع التجارة، فيما تسهم في تحجيم النمو الاقتصادي للصين.الاتفاقات الثنائية
وبدلاً من تلك الترتيبات والاتفاقيات يفضل الرئيس الأميركي ترامب عقد اتفاقيات ثنائية بين الدول، ويشكل ذلك عودة إلى حقبة سابقة، وعلى سبيل المثال خلال إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش أبرمت الولايات المتحدة اتفاقات ثنائية مع دول أصغر، كانت من بينها كولومبيا وبنما وبيرو.وتعرضت تلك الاتفاقات إلى حملات سياسية على اعتبارها تشكل درجة ضئيلة من المكاسب الاقتصادية، وسواء كان الشريك التجاري دولة مثل كوريا الجنوبية التي يبلغ عدد سكانها 50 مليون نسمة (وهو ما يعني أنها عميل كبير محتمل للبضائع الأميركية) أو بنما (التي يبلغ عدد سكانها أربعة ملايين نسمة) شنت الاتحادات العمالية حملات واسعة بحجة أنها ستفضي الى منافسة شديدة. وقد نقل الرئيس باراك أوباما التركيز الى الاتفاقات المتعددة الجوانب، وكان يسعى الى الحصول على التوسع الأقصى للأسواق بغية مواجهة التبعات السياسية للمفاوضات المتعلقة بالتجارة.ملاكمة
وتتماشى طريقة ترامب المفضلة مع أسلوب عقد اتفاقات تجارية ثنائية نجمت عن الأوضاع الصعبة في أسواق العقارات، وفي عالم ترامب تشبه المفاوضات مباراة للملاكمة يخرج منها المنتصر وهو يحمل الحزام الذهبي. وفي أي اتفاق ثنائي تملك الولايات المتحدة قوة ضغط لا تضاهى لأنها تتمتع بأقوى اقتصاد في العالم، ولكل دولة حوافزها الكبرى لدخول الأسواق الأميركية لا العكس.ويقول تشاد بي بون وهو خبير تجاري لدى معهد بيترسون للاقتصاد العالمي "يبدأ المرء بالتفكير بالتفاوض من نقطة الصفر وإذا كان لاعباً كبيراً فسيحقق صفقة أفضل". * Peter S.Goodman