العشائر تخرق «هدوء البصرة» وتغير تركيبتها سياسياً وثقافياً

غنائم الحرب على «داعش» تهدد بتغذية النزاعات حتى شواطئ الخليج

نشر في 13-05-2017
آخر تحديث 13-05-2017 | 00:12
فارون من الموصل يعبرون نهر دجلة أمس (رويترز)
فارون من الموصل يعبرون نهر دجلة أمس (رويترز)
انتشرت في وسائل الإعلام العراقية أخيراً، فيديوهات لاشتباكات مسلحة تجري ليلاً وسط حي سكني، حيث ينهمر الرصاص من البنادق والمدافع الرشاشة ليمر فوق أسطح المنازل كالألعاب النارية، وترد بنادق مماثلة بكثافتها من المنازل المقابلة، ثم يظهر صوت الشاب الذي يصور المشهد بهاتفه النقال وهو ينبه: عزيزي المشاهد، ليست هذه الاشتباكات في مدينة الموصل التي تخوض صراعاً ضد تنظيم «داعش»، بل هي في «العشار» المركز التاريخي لمدينة البصرة المستقرة، والتي تزخر بحركة السفن والبضائع واستثمارات النفط الأجنبية العملاقة، فالعشائر المقاتلة بدأت تنتقل بنشاطها المسلح من شمال المحافظة المحاذي للأهوار، إلى مركز المدينة الغنية والميناء الوحيد للعراق.

وتعرف البصرة التقليدية عند العراقيين بمسالمة أهلها وعدم ميلهم إلى العنف، حتى إن الأمثال تضرب بوداعة البصريين وتمسكهم بالحياة الحضرية التي يزدهر فيها الشعر والموسيقى وتجارة البحر وأكثر حقول النفط كثافة في العالم، وتقترب بلهجتها وعاداتها وفلكلورها من مجتمعات الموانئ التاريخية على ضفتي الخليج العربي، وتحتفظ عوائلها المعروفة بعلاقات وشراكات مع المدن الرئيسة في المنطقة وكبريات الشركات الأوروبية وخصوصاً البريطانية، لكن ذلك كله بدأ يتغير منذ اندلاع الحروب التي لم تتوقف خلال العقود الأربعة الماضية، حيث تسببت سياسات النظام العراقي السابق في هجرة أهم رجال الأعمال والطبقات المتعلمة، وتراجع أهمية المدينة حضرياً، ما أفسح المجال لهجرة كثيفة غير منظمة من منطقة الريف والأهوار التي تفصل بين البصرة وبغداد، الأمر الذي تواصل بنحو لافت بعد سقوط نظام صدام حسين، وارتفع عدد السكان من مليونين و200 ألف إلى نحو أربعة ملايين نسمة تقريباً حسب الإدارة المحلية، وبات البصريون «أقلية سكانية» حسب تعبير شائع في المدينة، وراجت تقاليد جديدة أهمها الطابع العشائري والنزوع إلى العنف واندلاع نزاعات مسلحة بين القبائل شمال البصرة.

أما التحول الأخير فهو انتقال النزاعات المسلحة إلى وسط المدينة التاريخي، حيث بدأت العشائر تتملك عقارات في أهم المناطق التجارية بعد أن انخرطت في أنشطة مالية وحزبية وتضاعفت ثرواتها، مقابل تراجع الإمكانات التجارية لدى البصريين واستمرار هجرتهم إلى الخارج.

ويطلق ساسة وناشطون نداءات استغاثة إلى الحكومة «لتمنع سقوط البصرة بيد العشائر»، ويذكر هؤلاء أن الجزء المسلح، من أكبر 5 قبائل استوطنت البصرة خلال العقود الثلاثة الماضية، يصعب التعامل معه لأنه منخرط مع الميليشيات الشيعية ذات النفوذ الكبير في الحرب ضد «داعش»، حتى إن مصدر تسليح العشائر برشاشات وقناصات حديثة، هو الغنائم الحربية من معارك سورية والعراق!

ويذكر البصريون أن القبائل المعروفة بشراستها لاتزال تنتقل من أطراف الأهوار الشمالية إلى عمق المدينة، بل سُجِّلت حالات ظهر فيها السلاح المتوسط لهذه القبائل في منطقتي أبي الخصيب والفاو اللتين تشكلان الساحل العراقي قرب شواطئ إيران والكويت، ما يعكس تغيراً متسارعاً في الخريطة الاجتماعية والسياسية كذلك، قد يجري استثماره بشراسة في موسم التنافس الانتخابي الذي بدأ ساخناً.

فبينما كانت هاتان المنطقتان تتميزان بتنوع مذهبي وقومي في السابق، وتعيشان استقراراً اجتماعياً نادراً، فإن الهجرة العشائرية من شمال البصرة باتت تهدد بتغيير البنية السكانية وظهور نفوذ أوسع لميليشيات مقربة من طهران، خصوصاً أنها هجرة تفتقر إلى التنظيم وتغيب عنها سيادة الدولة، وتستهدف منطقة حيوية تمد العراق بنحو 80 في المئة من عوائده المالية.

وتأتي هذه التطورات لترسم مفارقة قاتمة، إذ إن النزاعات العشائرية التي تقلق البصرة تجري وسط محاولات نهوض اجتماعية واقتصادية نسبية في المدينة، حيث تشهد إعادة افتتاح دور السينما لأول مرة منذ ربع قرن، وتدشين أسواق حديثة عملاقة أصبحت بمنزلة نوادٍ ثقافية تجتمع فيها عوائل الطبقة الوسطى، وتستعد المدينة لتدشين أكبر جسر معلق في البلاد، واستضافة أول مباراة دولية ودية في ملعبها الحديث، في وقت تنهمك شركات عالمية في بناء فنادق عملاقة لتستوعب حركة رجال الأعمال ومهندسي البترول الأجانب الذين يتدفقون إليها.

back to top