إن التجوال في مدينة إسطنبول حفنةُ مباهج، تتدفق عناصرها من التاريخ، ومن الحداثة، ومن المسعى الذي لا يتوقف إلى المستقبل. تجمع بين حداثة الغرب وسحر الشرق، الأمر الذي يجعلها غاية في التفرد. إنها نموذج المدينة التي لا يتأثر عمرانُها المتواصل بالمعترك السياسي، إذا ما حدث، فهي تنعمُ بصلابة المدن التي تستقل خطواتُها، من أجل العمران، عن كل أهواء الصراع السياسي. هذا ما اجتهدتُ فيه، وأنا أستحضر، رغبةً في المقارنة، العواصمَ العربية التي تنعم بتاريخ عريق: بغداد، القاهرة، دمشق... هذه المدن العربية معلقةٌ بأذيال التسلط السياسي، والمعترك السياسي اللذين يواصلان فسادهما منذ أكثر من نصف قرن (وهل أجرؤ أن أقول: منذ 14 قرناً؟)، حتى لتبدو المدينةُ بناسها مرآةً تعكس فساد السلطة، تتشربه وتخطو خطاه. لذلك لم تملك حصانةً في الخطوات، ولا استقلالاً، يجعلانها تواصل النمو، غير عابئة بفساد الساسة. المدينة تَغْنى بسواعد أبنائها، أو تَفْقر بسواعدهم أيضاً. إن بغداد شاهدي على هذا، المدينة التي لمْ يُسعفها المجدُ القديم. رأيت إسطنبول لأول مرة، بفضلِ دعوةٍ لمهرجانٍ عالمي للشعر، هو الخامس. إن سحرَ المدينة وضع المهرجان الشعري تحت ظلها، رغم تزاحم برنامجه، الذي تضمن قرابة 17 نشاطاً شعرياً وموسيقياً. القصائد التي استطعت متابعتها يغلب عليها الحماس السياسي، باستثناء قصائد شعراء من هولندا، النرويج، سلوفينيا، منغوليا، البرتغال، المكسيك، التي انصرفت إلى رؤى تُعنى بالإنسان، لا بالتاريخ. وهذا ما أصبو إليه. هناك مشاركات عربية من فلسطين، المغرب، مصر، لبنان، والعراق. لكن الأنشطة التي فتنتني أكثر من غيرها هي دعوة الشعراء لإقامة جلسات حوار في المدارس المتوسطة. هناك ينفرد الشعراء، عادة ما يحددون بثلاثة، بجمع من الطلبة داخل قاعات تتمتع بأناقة لافتة للنظر. الطلبة، فتياناً وفتيات، لا يخفون رغبتَهم في طرح الأسئلة، بشأن الشعر، ولا حماسَهم بالحصول على تواقيع الشعراء، حتى وجدتني، وأنا تحت وابل طلبات التوقيع، أتمتع بمشاعر النجم التي لا عهد لي بها. التفاتة من منظمي البرنامج ذكيةٌ دون شك.
كنت أود رؤية منطقة "تقسيم" في قلب إسطنبول، وشارعها الشهير "استقلال جادتي"، المحبب لقلب الشاعر الراحل حسين مردان في الستينيات، لكن لم يُسعفني الوقت. كان مردان يزور إسطنبول مرة أو مرتين في العام، ويحب أن يعلن اعترافه في كل مرة: "في استقلال جادتي أجد نفسي". على أني رأيت ما يكفي في زيارة قصيرة كهذه، ببرنامجها المزدحم. رأيت جامعيْ السلطان أحمد، وآيا صوفيا (الذي كان كنيسة بيزنطية، ثم أصبح جامعاً بعد فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح 1453، ثم تحول إلى متحف على يد أتاتورك). رأيت البازار الكبير، الذي لا يُقرن بخان الخليلي، أو سوق الحميدية، أو الشورجة أيام مجدها. مسقوف، يتوزع شارعه الرئيسي إلى أفرعٍ، والأفرعُ إلى أفرع، حتى يشكل متاهة لا يمكن الإحاطة بها. وأبرز ما يتميز به صفة الأناقة والجمال. كلُّ دكان عرضٌ فني، كما لو كان لوحة حروفية من فن الخط، في اللون والشكل، ودعوات المارة للشراء ليست ثقيلةَ الوطأة، ولا بأس من قطعة حلوى تُقدم إليك من هنا وهناك، أو استراحة لشرب الشاي في مقهى مفاجئ. إن هذا العرض لم يبلغ ما بلغه لو أن بُناته عرضةٌ سهلةٌ للاستجابة للمصطرع السياسي. رأيت سُبلَ المواصلات، من مترو تحت أرضي، إلى ترام، إلى باصات نقل، إلى حافلات بحرية، إلى سيارات تكسي لا تنقطع خدماتها. ثم رأيت قصر الباب العالي، الذي ذكرني بقصر الحمراء في غرناطة، بسبب توزع بنائه الأفقي بين الحدائق، ثم رأيت "الباروناما" التي تصورُ بثلاثة أبعاد "فتحَ القسطنطينية" على يد محمد الفاتح، الذي ينتصب على فرسه وسط جنوده، فتى لم يتجاوز الواحد والعشرين من العمر. عرض بصري باهر لا يُنسى.كنتُ مبتهجاً في الزيارة، لكن أسى بالغَ العمق يشوب ابتهاجي. لمَ أراني، أنا العربي، أنفردُ بانحداري أبداً، وكأني ثُلمةٌ في سيفٍ بفعلِ قطعِ الرقاب؟
مقالات
ولكن أسى بالغَ العمق يشوبُ ابتهاجي
14-05-2017