تقدم طال انتظاره
التقدم في معناه العريض ينهض على أن عملية التقدم متاحة وممكنة للإنسان متى ما استخدم عقله وارتكن إليه بوصفه الأداة الوحيدة لاكتشاف الحقائق والمعارف وتقييمها وفحصها، ومن ثم تطبيق تلك الحقائق والمعارف لخدمة الإنسانية.
المجتمعات الحية هي التي تمارس استشرافاً لما سيكون عليه المستقبل، وتُخضِع للفحص والتمحيص القضايا الكبرى التي تلامس حياة الإنسان وفكره. وفي الأزمنة القلقة والمرتبكة تزداد المعركة ضراوة ما بين فكر قديم آخذ في التضعضع وترتخي قبضته، وفكر جديد ينازع كي يجد موطئ قدم له. وهنا يبرز دور الفاعلين في ميدان الفكر والثقافة، فهم من يرمون الأحجار في المياه الراكدة، وحينما يقدمون على ذلك، فإنهم يعلمون تماماً أنه ليس ثمة ثبات وجمود محتم في المجتمع على كل المستويات الفكرية والروحية والثقافية أو صورة واحدة له، وليست جميع الحقائق الموروثة هي يقيناً صائبة. وفي هذا السياق، تتبدى حركات التقدم الرائدة في تشجيعها على التفكير التاريخي، وتأكيدها على أن الإنسان خاضع لحركة التاريخ، وبالتالي فإن صيرورة التاريخ تجعل من الحقائق الاجتماعية في أي زمن من الأزمان عرضة للتحولات والتغيرات، بل إن التاريخ نفسه يغدو محض عملية لا تتوقف عن التقدم وبالتالي التغير.
تأسيسياً على ذلك فإن أية حركة للتقدم والتطور، لابد أن يكون مدماكها الرئيس الإيمان بأن الإنسان قادر على أن يجترح بيديه عالماً جديداً. وتحديداً فإن ذلك الإيمان بقدرة الإنسان على إحداث التغيير والتعديل على ظروف حياته وتحسينها، هو ما يجعل عيون حركات التقدم شاخصة دوماً إلى الأمام باتجاه المستقبل، لا إلى الوراء والماضي. التقدم في معناه العريض ينهض على أن عملية التقدم متاحة وممكنة للإنسان متى ما استخدم عقله وارتكن إليه بوصفه الأداة الوحيدة لاكتشاف الحقائق والمعارف وتقييمها وفحصها، ومن ثم تطبيق تلك الحقائق والمعارف لخدمة الإنسانية. ولا ريب أن الفكر المنفتح على النقيض من ممارسات أخرى يقدم دعوة مفتوحة للإنسان كي يوظف طاقاته الإبداعية على نحو مثير ومشوق. ودائماً في جوف التطور تثوي فكرة يتيمة مفادها إيمان بأن الإنسان بوسعه أن يصنع مستقبله بنفسه دون وصاية من أية قوة مهما كانت، وهذه الفكرة بطبيعتها تنبذ مفهوم الحياة المرسومة سلفاً، ألا يبدو هذا أقل كلفة وأكثر نجاعة مما أتحفنا أسلافنا به!