طالعتنا قناة المحور الفضائية يوم الأربعاء الماضي، بحديث الفتنة للشيخ سالم عبد الجليل، الذي وصف فيه المسيحيين بالكفر، ووصف فيه أقرانه من المشايخ بأنهم يضللون المسيحيين واليهود عندما يقولون لهم إنهم مؤمنون.

وهو الحديث الذي أثار استياءً عاماً في مصر، لم يقتصر على المسيحيين وحدهم، فقد استنكر وزير الأوقاف هذا الحديث، كما استنكره مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف في بيان للمجمع أهاب بالمتحدثين في الشأن الديني ألا يكونوا أدوات لإحداث الفتن، كما قدم رئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان بلاغاً إلى النائب العام يتهم فيه صاحب حديث الفتنة بازدراء الدين المسيحي وتقويض السلام الاجتماعي والتحريض على قتل الأقباط.

Ad

وإن هذا البلاغ قد أخذ طريقه إلى محكمة جنح 6 أكتوبر، التي يقيم صاحب حديث الفتنة في دائرتها، وتحدد لنظره جلسة سوف تعقد في الرابع والعشرين من يونيو القادم.

الثقافة والتلاحم الوطني

وهي ردود فعل طبيعية لحديث الفتنة، إلا أنها لا تسهم في الحد من ظاهرة الفكر الجهادي التكفيري، التي تناولتها في مقاليين نُشِرا على هذا الصفحة يومي الأحد 16 و23 من الشهر الماضي في سياق تناولي أحداث الأحد الدامي بكنيستي مارجرجس بطنطا والكنيسة المرقصية بالإسكندرية، وهي ردود فعل طبيعية لكن ليس لديها من الرماد ما يكفي لذره في عيون كل الناس، كي لا يبصروا الحقيقة، وقد غاب عن بال أصحابها، أن قضية التطرف ترتبط بالثقافة السائدة في المجتمع والتي ظل التطرف الديني يغذيها في القرى والمراكز، في المساجد والجمعيات وفي الكتاتيب الأهلية والمكاتب الرسمية الابتدائية التي كانت قائمة في سحيق القرن الماضي، بل وفي والتعليم العام والتعليم الأجنبي المعاصرين في مراحلهما المختلفة، لذلك فإن الإصلاح ليس قصراً على البرامج التعليمية الأزهرية، فالتطرف وعدم الاعتراف بالآخر من الجينات التي توارثتها أجيالنا جيلاً بعد جيل، وأصبحت مواجهتها مسؤولية المجتمع كله بكل مؤسساته التعليمية والدينية والاجتماعية والسياسية لتغيير ثقافة مجتمع، الثقافة بأوسع معانيها وفي أوسع حدودها، التي لا يجوز كذلك أن ينظر إلى كل لون من ألوانها على حدة، أو أن يكون بحثه منفردا، بل يجب أن يتم التنسيق بينها جميعا مع اختلاف غاياتها، لتحقيق الغاية الأسمى والأجل وهي التلاحم الوطني.

فشل الحوار مع الآخر

وليس المقصود بالتلاحم الوطني، ذلك التلاحم بين أصحاب الأديان المختلفة، بل التلاحم الوطني داخل الديانة الواحدة، وقد فشلت دعوة التلاحم في الحالتين لأسباب عدة، تجسدت في مؤلفات وأبحاث كثيرة لمن هم أعلم بها وأكثر دراية منى بشؤونها، وقد أعرج عليها أو أدلي بدلوي فيها إذا كان في العمر بقية، إلا أن ما يعنيني في هذه العجالة التي لا يتسع لسواها المقال الصحافي، هو الإطار الشرعي الذي يجب أن يجري فيه أي حوار، بأن يكون منزهاً عن الهوى والغرض، خالصاً لوجه الله.

ويحضرني في هذا السياق أقدم حوار في العصر الحديث بين رجال الدين المسيحي والإسلامي تم عقب الحرب العالمية الثانية وفشل لانتفاء مصداقيته، وحوار بين السلطة الأمنية في مصر والمتطرفين في بداية التسعينيات فشل كذلك، حيث كانت تحكمه الأهواء السياسية لدى المسؤولين.

حوار بحمدون عام 1954

وهو الحوار الذي تناوله مؤتمر عقد في بحمدون في لبنان في ابريل 1954، والذي وجهت الدعوة إليه جمعية أصدقاء الشرق الأوسط في أميركا، وتضمن نص الدعوة أن الغاية من المؤتمر هي "بحث النواحي الروحية والقيم المثلى التي وردت في تعاليم الدين مبينة قيم الفلسفة المادية"، وأن المقصود في هذا المؤتمر "إظهار وتحقيق أهداف الديانتين الواحدة، ومقاومة الشيوعية ومكافحة مغرياتها الدنيوية وأغراضها المادية".

فقد فشل هذا المؤتمر قبل أن يبدأ، لأن الولايات المتحدة الأميركية هي التي وجهت الدعوة إليه، فلم يلق قبولاً من كبار رجال الدين والفكر في العالم العربي، وقد تساءل البعض منهم: كيف تجمع الدولة الداعية في إحدى يديها القنبلة الذرية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية بها منتصرة، وبين الروحانيات ومُثُلها، كما رفض آخرون الدعوة التي وجهت إليهم، حتى لا يكونوا في هذا المؤتمر أدوات في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي.

وهو ما اعترف به أحد أقطاب المؤتمر في رده على سؤال لأحد الصحافيين وقتئذ بأن الولايات المتحدة الأميركية كقائدة الدول الخارجة عن الستار الحديدي الشيوعي، تسعى إلى توطيد علاقتها بدول المنطقة للحيلولة دون نجاح الشيوعية، إزاء التطورات والأحداث الجارية في الشرق الأوسط، ولرفض أقطاب المؤتمر أن تدرج القضية الفلسطينية ضمن أعمال المؤتمر، باعتبار مأساتها نتاج قيام دولة عنصرية في المنطقة تقوم على أساس ديني.

كما كان الدافع لعقد هذا المؤتمر الرد على مؤتمر باندونج الذي ظهرت فيه الدعوة إلى حركة عدم الانحياز كحركة عالمية لا تنضم إلى أي من الكتلتين، وهي الحركة التي قادها قادة وزعماء العالم الثالث، نهرو وتيتو وماوتسي تونغ وسوكارنو وجمال عبدالناصر، والذي برز فيها كذلك تضامن الشعوب الآسيوية والإفريقية، في تأييدها للحركات التحريرية.

وللحديث بقية حول أسباب فشل الحوار الإسلامي في مصر.