شهدت المنطقة على امتداد السنوات الماضية، في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، العديد من مؤتمرات الحوار سواء بين الحضارات أو الثقافات أو الأديان أو المذاهب الإسلامية، وكانت دعوات الحوار هي المعلم الأبرز في المشهد العربي العام، انطلاقاً من أن ثقافة الحوار هي المخرج الطبيعي والوقائي من أمراض التطرف والعنف، وباعتبار أن غيابها هو الذي أتاح لخطاب الكراهية أن ينمو وينتشر، لكن بعد أن ازدحمت الساحة بالمؤتمرات الحوارية وفاضت الأرض العربية بها، يحق لنا أن نتساءل: هل تحققت ثقافة الحوار؟ وهل حققت أهدافها؟ واضح من هذا التساؤل أن المقصود بثقافة الحوار شيء آخر غير مجرد الحوار، فهناك حوارات كثيرة تمت بين الشرق والغرب، وأوروبا والعالم الإسلامي، وأميركا والعرب، وبين الأديان الثلاثة الكبرى، وبين المذاهب والطوائف الإسلامية، في معظم الدول العربية، وكانت الدوحة في مرحلة مهمة من مراحل الحوارات، تعد عاصمة للحوار وتستقطب معظمها، ومع ذلك أتصور أن ثقافة الحوار لم تحقق أهدافها، وما يحصل في الساحة من احتراب داخلي، وصراعات دموية خلفت الملايين من الضحايا بين قتيل، وجريح، ومهجر، ولاجئ، ونازح، وتفريغ مدن عربية عريقة من سكانها الذين عاشوا فيها أجيالاً بعد أجيال بهدف إحداث تغيير ديموغرافي قسري، إضافة إلى التوجس من الآخر الخارجي، لخير شاهد على إخفاق ثقافة الحوار، داخلياً وخارجياً، فما ثقافة الحوار؟ وكيف يتم تفعيلها؟ وما مستقبلها؟
المقصود بثقافة الحوار: قبول الآخر بما هو عليه من اختلاف ديني أو مذهبي أو عقدي أو سياسي أو عرقي، واحترام التعددية مطلقاً؛ دينية أو مذهبية أو سياسية، وتفعيل قيم التسامح ونقد الذات والاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه... المقصود بالثقافة هنا: معناها العام المتمثل بالمنظار الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى ذاته وإلى الآخرين من البشر، وإلى الأشياء. إن البداية الموضوعية الصحيحة والضرورية لتفعيل ونجاح ثقافة الحوار مع الآخر الخارجي في تحقيق أهدافها، إنما تبدأ بإرساء ثقافة الحوار الداخلي بين أبناء المجتمع الواحد، أولاً، على أسس من قيم التسامح واحترام التعددية وتأكيد حق الآخر في الاختلاف السياسي والفكري والديني والمذهبي من غير إقصاء أو تشويه أو تخوين أو تكفير، وذلك عبر ترسيخ ممارسة الحوار، بدءاً من البيت الصغير، في ممارسة الحوار بين الوالدين، وبينهما وأولادهما، مروراً بالبيت الكبير، المجتمع ومؤسساته التوجيهية والتربوية والإعلامية: المدرسة والجامعة والجامع والمنظمات المدنية، وصعوداً إلى المجتمع الدولي، فذلك شرط ضروري لنجاح الحوار مع الآخر الخارجي. علينا جميعاً العمل على غرس شجرة الحوار في تربتنا العربية عبر التربية والتعليم والتثقيف وعبر الممارسات الفعلية، حتى تصبح ثقافة الحوار قناعة ثابتة في نفوس جميع أفراد المجتمع، وسلوكاً مستمراً للقطاع العريض من المجتمع.إن أول شروط ازدهار شجرة الحوار، إشاعة قيمة التسامح في المجتمع، لا عبر الخطب والمواعظ والشعارات والتغني بالأمجاد التاريخية في تسامحنا مع المخالفين، فكل ذلك لا يجدي إذا كانت التركيبة المجتمعية، السياسية والاقتصادية والفكرية، غير متسامحة، يسودها التعصب والانغلاق، نظراً لأن قطاعات وفئات عديدة في المجتمع، تعاني هضماً في حقوقها، وتهميشاً في مكانتها، وتتعرض لممارسات ظالمة وتمييزية من مؤسسات الدولة، إن قيم الحوار والتعددية والتسامح والقبول بالآخر، هي في النهاية محصلة ونتيجة لا سبب؛ هي محصلة تركيبة مجتمعية متسامحة، ونتيجة مجتمع يحصل أفراده على حقوقهم المشروعة على حد سواء، طبقاً للمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري.ختاماً: ثقافة الحوار تعني ما هو أعمق من مجرد الاستماع إلى وجهات النظر، والسماح بالتعبير عن الأفكار، إنها تتطلب الاعتراف بشرعية الآخر، والاعتراف بحقه في الرأي والتعبير والمشاركة في القرار السياسي، ليس منةً ولا إحساناً أو تنازلاً، وإنما حق أصيل وطبيعي وشرعي، لا يحق لأحد مصادرته أو تهميشه أو تخوينه أو تكفيره، ثقافة الحوار لا يمكن ترسيخها ما لم نؤمن بها، قناعة مجتمعية عامة مثل قناعاتنا بالأمور البدهية.* كاتب قطري
مقالات
ثقافة الحوار... كيف نفعلها؟
15-05-2017