كان انتصار إيمانويل ماكرون على مارين لوبان الخبر السار الذي كان كل من ينتصرون للمجتمعات الديمقراطية الليبرالية المفتوحة في مواجهة المجتمعات المعادية للهجرة الكارهة للأجانب في أمسس الحاجة إليه، ولكن النصر في المعركة ضد الشعبوية اليمينية لا يزال بعيدا.

فقد حصلت لوبان على أكثر من ثلث أصوات الجولة الثانية، رغم أن حزبا واحدا آخر فقط غير جبهتها الوطنية- حزب نيكولا دوبون آنيون الصغير "انهضي يا فرنسا"- هو الذي قدم لها أي دعم، وكان الإقبال على الانتخابات منخفضا بشكل حاد مقارنة بالانتخابات الرئاسية السابقة، مما يشير إلى عدد كبير من الناخبين الساخطين، وإذا فشل ماكرون خلال السنوات الخمس المقبلة فستعود لوبان بقوة وكلها رغبة في الانتقام، وستكتسب الشعبوية المعادية للهجرة المزيد من القوة في أوروبا وأماكن أخرى.

Ad

عندما كان ماكرون مرشحا ساعده وقوفه خارج الأحزاب السياسية التقليدية في اكتساب الدعم في هذا العصر الذي يتسم بالسياسة المناهضة للمؤسسة، ولكن الحقيقة نفسها تتحول إلى السيئة الوحيدة التي تعيبه كرئيس فعلي للبلاد، ذلك أن حركته السياسية "إلى الأمام" لا يتجاوز عمرها سنة واحدة، وسيكون لزاما عليه أن يعكف على بناء أغلبية تشريعية من الصِفر بعد انتخابات الجمعية الوطنية الشهر القادم.

تقاوم أفكار ماكرون الاقتصادية التوصيف السهل، وأثناء الحملة الرئاسية وُجِّهَت إليه اتهامات متكررة بأنه يفتقر إلى التفاصيل، وهو رئيس نيوليبرالي في نظر كثيرين على اليسار واليمين المتطرف، وليس لديه الكثير من السمات التي قد تميزه عن أنصار سياسات التقشف التي خذلت أوروبا ودفعت بها إلى المأزق السياسي الحالي، والواقع أن الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، الذي دعم المرشح الاشتراكي بينوا هامون، وصف ماكرون بأنه يمثل "أوروبا الأمس".

ولا تخلو العديد من خطط ماكرون الاقتصادية من نكهة نيوليبرالية بالفعل، فقد تعهد بخفض معدل الضريبة على الشركات من 33.5 في المئة إلى 25 في المئة، وإلغاء 120 ألف وظيفة في قطاع الخدمة المدنية، والإبقاء على العجز الحكومي عند مستوى أقل من الحد الذي وضعه الاتحاد الأوروبي (3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي)، وزيادة مرونة سوق العمل (تعبير ملطف عن تسهيل فصل عمال الشركات)، ولكنه وعد بالحفاظ على استحقاقات معاشات التقاعد، ويبدو نموذجه الاجتماعي المفضل أشبه بنموذج الأمان المرن المعمول به في دول الشمال، والذي يجمع بين مستويات عالية من الأمان الاقتصادي والحوافز القائمة على السوق.

لن تحقق أي من هذه الخطوات الكثير- ليس في الأمد القريب بكل تأكيد- في مواجهة التحدي الرئيسي الذي سيحدد رئاسة ماكرون: خلق فرص العمل، فكما يلاحظ مارتن ساندبو، كان تشغيل العمالة الشاغل الرئيس للناخبين الفرنسيين ولابد أن يكون ذلك على رأس أولويات الإدارة الجديدة، فمنذ اندلاع أزمة منطقة اليورو ظلت البطالة الفرنسية مرتفعة، عند مستوى 10 في المئة، وأقرب إلى 25 في المئة بين الشباب دون سن 25 عاما، ولا يوجد تقريبا أي دليل على أن تحرير أسواق العمل من شأنه أن يزيد من فرص العمل، ما لم يحصل الاقتصاد الفرنسي على دَفعة قوية في الطلب الكلي أيضا.

وهنا يأتي دور عنصر آخر في برنامج ماكرون الاقتصادي، فقد اقترح خطة تحفيز بقيمة 50 مليار يورو (54.4 مليار دولار أميركي) تدوم خمس سنوات، وتتضمن استثمارات في البنية الأساسية والتكنولوجيات الخضراء، إلى جانب توسيع نطاق التدريب للعاطلين عن العمل، ولكن لأن هذا لا يمثل أكثر من 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي الفرنسي، فإن خطة التحفيز في حد ذاتها قد لا تفعل الكثير لرفع العمالة الإجمالية.

وتتلخص فكرة ماكرون الأكثر طموحا في القفز نحو الاتحاد المالي في منطقة اليورو، مع وزير واحد مشترك للخزانة والمالية، وفي اعتقاده أن هذا من شأنه أن يمكن التحويلات المالية الدائمة من الدول الأقوى إلى الدول التي أضرت بها السياسة النقدية المشتركة في منطقة اليورو، وستمول ميزانية منطقة اليورو عن طريق المساهمات من عائدات الضرائب في الدول الأعضاء، وسيتولى برلمان منفصل في منطقة اليورو توفير الإشراف السياسي والمساءلة، وهذه الوحدة المالية من شأنها أن تعمل على تمكين دول مثل فرنسا من زيادة الإنفاق على البنية الأساسية وتعزيز خلق فرص العمل من دون اختراق الأسقف المالية.

الواقع أن إقامة اتحاد مالي يدعمه تكامل سياسي أعمق أمر منطقي للغاية، فهو على الأقل يمثل مسارا متماسكا للخروج من الأرض المجهولة في منطقة اليورو حاليا، بيد أن سياسات ماكرون الأوروبية الجريئة ليست مجرد مسألة سياسة أو مبدأ، فهي أيضا تمثل أهمية بالغة لنجاح البرنامج الاقتصادي، ومن غير المرجح أن تخرج فرنسا من أزمة تشغيل العمالة قريبا في غياب قدر أعظم من المرونة المالية أو التحويلات من بقية منطقة اليورو، وبالتالي فإن نجاح رئاسة ماكرون يعتمد إلى حد كبير على التعاون الأوروبي.

ويقودنا هذا إلى ألمانيا، إذ لم يكن رد فعل أنجيلا ميركل الأولي على نتائج الانتخابات مشجعا، فقد هنأت ماكرون، الذي "يحمل الأمل للملايين من أبناء الشعب الفرنسي"، ولكنها ذكرت أيضا أنها لن تنظر في إدخال تغييرات على القواعد المالية في منطقة اليورو، وحتى لو كانت ميركل (أو حكومة أخرى قادمة بقيادة مارتن شولتز) أكثر مرونة، فإن مشكلة الناخبين الألمان تظل قائمة.

فبعد أن صوروا أزمة منطقة اليورو ليس باعتبارها مشكلة تتعلق بالترابط، بل على أنها قصة أخلاقية- الألمان المزدهرون الحريصون الذين يعملون بجدية واجتهاد في مواجهة المدينين المسرفين المحتالين- لن تكون مهمة الساسة الألمان في حمل ناخبيهم على الموافقة على أي مشروع مالي مشترك سهلة على الإطلاق.

وتحسبا لردة الفعل الألمانية شن ماكرون هجوما مضادا: "لا يمكنك أن تزعم أنك تؤيد أوروبا القوية والعولمة، ثم تقول إن اتحاد التحويل لن يمر إلا على جثتك"، فهذا كما يعتقد وصفة أكيدة للتفكك والسياسة الرجعية: "بدون تحويلات، لن تسمح للدول الواقعة على الأطراف بالتقارب وستخلق تباعدا سياسيا باتجاه المتطرفين".

قد لا تكون فرنسا دولة واقعة على المحيط الأوروبي، لكن رسالة ماكرون إلى ألمانيا واضحة: إما أن تساعدني فنبني اتحادا حقيقيا- اقتصاديا، وماليا، وسياسيا في نهاية المطاف- أو تدهسنا جميعا هجمات المتطرفين الضارية.

* داني رودريك

* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون كينيدي للدراسات الحكومية في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "الاقتصاد يحكم: "حقائق وأباطيل العلم الكئيب".

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق

مع «الجريدة»