قبل التفكير في إنتاج هذا الفيلم كشفت الإحصاءات أن عدد الشباب التونسيين الذين سافروا إلى سورية لينضموا إلى صفوف التنظيمات الدينية المتطرفة، مثل «جبهة النصرة» (فتح الشام سابقاً) و«داعش»، يتراوح بين 7000 و12000 شاب، في ظاهرة أثارت فزع المخرج التونسي رضا الباهي فما كان منه سوى أن اجتمع وريا العجيمي ليكتبا سيناريو وحوار فيلم روائي طويل اختارا له عنوان «زهرة حلب».تناول الفيلم أزمة «سلمى» (هند صبري)، أم تونسية تعيش مع ابنها «مراد» (باديس الباهي)، بعد طلاقها من زوجها (هشام رستم)، وذات يوم فوجئ بالابن، الذي كان يعشق الموسيقى، ويعيش قصة حب مع فتاة رقيقة، اختفى تاركاً غيتاره، وهاتفه النقال، وفي وقت لاحق تتلقى مكالمة منه يبلغها فيها أنه في سورية!
فكرة، بل معالجة، قريبة للغاية من تلك التي اعتمد عليها المخرج الجزائري رشيد بوشارب في فيلمه «الطريق إلى إسطنبول» (أم بلجيكية اختفت ابنتها، وتركت لها رسالة تؤكد من خلالها أنها في تركيا لتعبر الحدود إلى سورية للانضمام إلى المقاتلين). وفي الفيلمين تركيز واضح على مأساة الأم (المطلقة!) من دون التطرق إلى حقيقة الأسباب التي تدفع الشباب إلى الارتماء في حبائل وأفكار التنظيمات التي تُسمي نفسها جهادية، فالقول إن «مراداً» اتخذ القرار في أعقاب تعرضه للضرب من والده في مكان عام، وبسبب انشغال أمه، التي تعمل ممرضة وتعود في آخر النهار مرهقة، فيه تعسف، ومبالغة، وابتعاد عن معرفة الدوافع الحقيقية التي تجعل أي شاب يقع فريسة سهلة لعمليات «غسيل المخ» التي يتعرض لها، وينجذب بسذاجة نحو الفكر المتطرف الذي تبثه الجماعات الإرهابية (في الفيلم يتلقى الشاب من الجماعة زياً إسلامياً وكتاباً عن الجنة وتحذيراً من الجلوس مع فتاته عملاً بالحديث «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُل بِامْرَأَةٍ لا تحل له فإن ثالثهما الشيطان إِلَّا ذُو مَحْرَم»، ويتعرض لتعنيف لأنه انشغل عن محاربة الكفار باللهو وسماع الموسيقى). ورغم تهافت الحوافز والمغريات فإنه يقع في الفخ بسهولة، وهو ما يعكس هشاشة ثقافته، وسطحية أفكاره، وهزال البيئة التي نشأ فيها، وهو المدخل الذي كان ينبغي على الفيلم التوقف عنده، بدلاً من الاستغراق في رصد مشاعر الأم، التي تشعر بأنها قصرت في حق أبنها، ولا يفارقها الإحساس بتأنيب الضمير!هذه القضية الجادة تُصبح أقرب إلى «الميلودراما الهندية» لحظة إصرار الأم على استعادة ابنها، وهي ترتدي ثوب «المجاهدة»، التي تناضل من أجل إعلاء راية التنظيم، بعد إحكامها خطة خداع وتمويه تنطلي على الأجهزة الأمنية التونسية، والإرهابية، معاً، وعبورها الحدود التركية السورية، واختراقها، بركاكة وعبث، صفوف «النصرة»، كممرضة ومقاتلة. لكن «الميلودراما الهندية» تبلغ مداها مع انقلاب «سلمى» على جلاديها، ومغتصبيها، وقتلهم جميعاً، كالفئران، وتخفيها في ملابسهم العسكرية لتفاجأ برصاصة قناص ترديها أرضاً، ونُدرك أن قاتلها هو ابنها «مراد»!نجح الفيلم في إدانة الحكومة التونسية التي تركت ظاهرة تسفير الشباب تتفاقم من دون مواجهة حقيقية، ما كان سبباً في تحول كثير من العائلات التونسية إلى ضحايا. كذلك أشار، بطرف خفي، إلى الأطراف المتورطة (تركيا مثلاً)، والخلافات المحتدمة بين التنظيمات المتطرفة، وأكذوبة ما يُقال عن قوة دولة الخلافة المزعومة (الخليفة طريح الفراش يعاني سكرات الموت)، والخلاف بين أفراد التنظيم يصل إلى حد التشابك بالأيدي. وإذا كان «الباهي» قد أرجع، في جانب من الأحداث، أسباب الظاهرة إلى التشرذم العائلي (الأب فنان بوهيمي طلق زوجته التي تشك في وجود علاقة بينه وشقيقتها التي قاطعتها) فإن تعدد تظاهرات العائلات المُطالبة بعودة أبنائها المغرر بهم يدحض هذه الحجة، ومثلما يبدو التطابق كبيراً بين الفيلم و{الطريق إلى إسطنبول»، لا سيما تغييب الدوافع التي تملكت من الضحية المستهدفة (الفتاة البلجيكية والشاب التونسي)، يُحسب للفيلمين تمجيد سيرة «الأم الشجاعة»، وعبثية ما وصل إليه العالم، وهو الأمر الذي جعل «النهاية السعيدة» أمراً مستبعداً تماماً، وأكسب الفيلم بعض المصداقية، التي افتقدها الفيلم السوري «فانية وتتبدد»، الذي تناول قضية التنظيمات الإرهابية التي تتاجر بالدين، وإن اتفق الفيلمان على ملامسة الشخصيات من السطح، وعدم التغلغل في دواخلها، وأعماقها!
توابل - سيما
«زهرة حلب»!
19-05-2017