أظن أن أحدهم أطلق نكتة بعد اكتشاف النفط في الخليج، مفادها أننا، الخليجيين، نسبح في برك نفطية لا تنضب، وربما كانت هي ذات الطرفة التي ضحكنا عليها في مسرحية "باي باي لندن". ورغم مجازية هذه العبارة، فإنها مرت على أجيال تناقلتها حتى صدقتها وآمنت بها، والمضحك أننا أيضا صدقناها، فصارت عيوننا متطلعة إلى ما هو فوق، ولا ضير أن تكسر رقابنا، الأهم أن ننال شرف الغنى وأن نموت كذلك.تلك الطرفة لم يقتصر وباؤها علينا فقط، بل عَرف بها العالم أجمع، حتى صنعت للكويت حضارة وسمعة نفطية عريقة، ولم يعد يعرف عنها إلا أنها بلد بترولي فاحش الثراء.
غير أن الحقيقة ليست بهذا الخيال، لكننا نعاني حالة نفسية تأبى الاعتراف بذلك، كشخص أفنى عمره كذباً وهو يواري حقيقته بتصديق كذبته، والعتب على من يصدق، فأن تكون مواطنا ببلد نفطي لا علاقة لذلك بثرائك، والحقيقة التي أعرفها وتعرفها أنت ويعرفها غيرنا، أننا عاديون جداً، أغنياء نعم إذا ما قورنّا بالفقراء، لكن أغلبنا بشكل عام من طبقة متوسطي الدخل. فنحن نأخذ قروضاً، نعيش على أقساط وديون، نسافر من أموال جمعية اشتركنا فيها مع أصدقائنا، رواتبنا تنفد قبل نهاية الشهر ونقترض من أهلنا، وأحيانا كثيرة من عاملتنا "ميري" أو سائقنا "بابو"، نعيش حالات من التقشف المادي بدليل ما تشهد عليه هاشتاقات دعم العمالة، ومتى ينزل الراتب؟ نحن لسنا أغنياء كما نظن، وكما يخيل للعالم أجمع.ولسببٍ ما، أحدثت هذه النكتة السالفة الذكر، شرخا ليس هينا في كبريائنا، فصار لزاما علينا أن نبدو أغنياء، حتى وإن كلفنا الأمر المستحيل، لذلك تجد أغلبنا يعاني داء الفشخرة الذي كتبت عنه سالفا، بل يجد صعوبة بالغة في تطبيق مقولة "على قد لحافك مد رجلك"، ولم تعد هذه المقولة تستخدم إلا للشماتة أو السخرية من أشخاص نعلم جيدا تواضع إمكانياتهم لنستفزهم بها لا أكثر.وبسبب هذه النكتة، ظن العالم أن سماءنا تمطر ذهبا، فجيب الخليجي دائما مستهدف، لأنه في نظرهم ثري جدا، حتى أنني أذكر أن امرأة إفريقية سألتني بشغف ذات مرة: هل تملكين طائرة خاصة؟ فأردت حينئذٍ أن أصرخ ببوح هي لا تعلمه، فهي لا تدري أن سيارتي الألمانية "مقسطة"، وأن مصروفي، آنذاك، ما كان يتعدى 50 دينارا، والتي بالكاد كانت تكفيني أيام دراستي الجامعية، هي لا تدري أن أغلبنا كذلك، لا تدري أصلا أن راتب الكويتي الغني لا يتعدى الألف دينار، وأن الإيجارات لا تقل عن ٦٠٠ دينار، ليتبقى له ٤٠٠ تبخرها الأقساط والغلاء المعيشي في غضون أسابيع.الذين يحسبوننا في ثراء فاحش لا يعلمون أن شوارعنا ليست مسلفتة بالألماس، ولا مرصوفة بالأحجار الكريمة، وليتهم رأوها، هم لا يدرون أن بيوتنا ليست قلاعاً ولا قصوراً، كما في المسلسلات الزائفة، ليتهم يدرون كيف نحصل على بيوتنا؟ مدارسنا ليست كما يتخيلونها... ولا مستشفياتنا ولا أغذيتها ولا حتى بحرنا وبرنا؟ ليتهم يدرون أن المافيات والعصابات التي يعرفونها "لاشيء" إذا ما قورنت بمافياتنا وعصاباتنا المتخفية بطاقية الشرف والغنى، وليتهم يدرون أننا لسنا أغنياء بالفعل، لكن أغلبنا يمثل ذلك، لأن المجتمع كذلك، ولأن تلك النكتة اللعينة الآنفة الذكر تطاردنا في كل مكان، فأعراسنا وعزائمنا وحفلاتنا عليها أن تبدو رغدة، لأنه لابد أن نكون أغنياء.ليتهم يكفون عن النظر إلينا بهذه الصورة الوهمية، لنعيش على الأقل كما نريد ونقدر، لا إثباتاً لصور لا تشبهنا في الواقع، وليتنا نكفّ عن تحميل أنفسنا ما لا نطيق، لنبدو كما يحب أن يرانا المجتمع والناس. ثم بعد كل هذا العرض المادي الذي انغمس فيه العالم، يجيء أحد أولئك المتبخترين، ويقول إن "الغنى غنى النفس والخلق".
مقالات - اضافات
أغنياء ولكن...
20-05-2017