بعد ثلاث ساعات من نقاش حاد وصاخب سيطرت عليه حالة من الغضب الشديد على كل أعضاء الجمعية لمستشاري مجلس الدولة في اجتماعها الذي عقدته يوم السبت 20 أبريل الماضي، أصدرت الجمعية قرارها بترشيح المستشار الجليل يحيى الدكروري رئيسا لمجلس الدولة، وهو القرار الذي وافق عليه 470 من أصل الحضور البالغ عددهم 554 مستشارا.
الأعراف والتقاليد القضائية ويعبر هذا القرار تعبيرا صادقا عما ترسخ في وجدان المستشارين بالجمعية وضمائرهم من إيمان عميق بالأعراف والتقاليد القضائية، وقد كان شيوخ القضاة، من قبل إنشاء مجلس الدولة في القضاء الشرعي والقضاء العادي، يوكل لهم اختيار شيوخهم، وظل هذا تقليدا متبعا في مصر من قديم الزمان، حتى في أحلك الأوقات التي مرت بها مصر، والتي كانت فيها محتلة أو غزاها أجنبي، فبعد المقاومة المصرية الباسلة للحملة الفرنسية، والثورة المصرية التي عمت كل أرجاء البلاد ضد هذه الحملة، والتي قمعها نابليون بقسوة شديدة، بعث نابليون منشورا في 25/ 7/ 1798 إلى الديوان الذي كان قد ألفه ثم أعاده بعد الثورة، والمكون من كبار المشايخ يعتذر في المنشور عن عزله القاضي، بأنه لم يعزله بل هو الذي غادر مصر إلى الشام، وأنه وقد صار المنصب شاغرا، فماذا كان ينبغي عليّ عمله اتباعا لتعاليم القرآن الصحيحة، رأيت من الواجب أن أعهد إلى جمعية العلماء اختيار القاضي، وهذا ما قمت به، وقد اختاروا الشيخ العريشي الذي تقلد المنصب فوراً.حماية العدالةولا أختلف مع مستشاري الجمعية الأجلاء ترشيحهم المستشار الجليل يحيى الدكروري لرئاسة المجلس، باعتباره أقدم المستشارين لحماية العدالة، وباعتباره القاضي الطبيعي الذي سيترأس المحكمة الإدارية العليا وهي أعلى المحاكم في القضاء الإداري، وأن تدخل السلطة التنفيذية في اختيار رئيس هذه المحكمة هو إخلال بحسن سير العدالة، وهو التدخل الذي استحدثه القانون رقم 13 لسنة 2017 بإهداره ضمانة القاضي الطبيعي، الذي تتمثل به كل الضمانات لحماية العدالة، خصوصا أن الحكومة هي خصم في كل القضايا التي تعرض على هذه المحكمة، وهو ما قلته بالحرف الواحد في مقالي المنشور على هذه الصفحة يوم 2/ 4/ 2017 تحت عنوان "الهم الأكبر هو التدخل في سير العدالة".المستشار يحيى الدكروري قامة قضائية كبيرةولا أختلف مع الجمعية العمومية، ولا يختلف معها أحد فيما يتحلى به المستشار الجليل يحيى الدكروري من استقامة وأخلاق حميدة ونزاهة وعدل، متواضع وهو في موضع العلو، لا يحنث عهدا ولا يضمر شرا، متسامح عف اللسان، وهو في الوقت ذاته ثائر في نصرة الحق، لا يهن في قضائه ولا يبلغه إلا عن طريق الحق، لا يصانع من أجله ولا يلين فيه، ولا يفرق في طلبه بين غاية ووسيلة، وقد حاز ثقة زملائه الذين انتخبوه أكثر من مرة رئيسا لنادي قضاة مجلس الدولة، وكان للنادي برئاسته مواقف قوية للتصدي لوزير العدل الأسبق المستشار ممدوح مرعي في أزماته مع القضاة وتدخله في شؤونهم.عزل مقنع لقاضي تيران كما ترسخ في وجدان هؤلاء القضاة أن إقصاء أقدم نواب رئيس مجلس الدولة الحالي، وهو المستشار يحيى الدكروري الذي حل عليه الدور بالأقدمية ليترأس مجلس الدولة في أول يوليو القادم لإصداره حكما بإبطال التوقيع على اتفاقية تيران وصنافير بموجب التعديل التشريعي سالف الذكر، هو عزل مقنع للقاضي بسبب قضائه الذي لم يرضِ الحكومة والبرلمان.ومن هنا أصبح استقلال القضاء والضمانات الواجب توافرها لتحقيق هذا الاستقلال، وأهمها عدم قابلية القضاة للعزل، قضية كونية، تعقد المؤتمرات برعاية الأمم المتحدة لتعزيزها وتأكيدها، لأن القضاء هو الحصن الحصين لصون لحقوق والملاذ الأمين لحماية الحريات.أي أن عدم قابلية القضاة للعزل ليس امتيازاً للقاضي بقدر ما هو فى المقام الأول حماية للعدالة، وتوفير الاطمئنان للقضاء لحمايته من تأثير أي سلطة عليه وتدخلها. السلطان يكرم القاضي الذي حكم ضدهويحضرني في هذا السياق قصة قديمة ترجع إلى عام 1915، قصة الشيخ محمد بخيت المطيعي، الذي فصل في إحدى قضايا الأوقاف، وكان الأمير حسين كامل، حفيد محمد علي وابن الخديوي إسماعيل مرشحا لنظارة الوقف فقضى الشيخ بخيت بأن الأمير حسين كامل لا يصلح لنظارة الوقف.وتمضي الأيام وينصب الأمير حسين سلطانا على مصر كلها في 19 ديسمبر سنة 2014، وما إن تولى السلطان منصبه حتى طلب استدعاء القاضي الشرعي الشيخ بخيت، وكان هذا الاستدعاء مثار قلق كل من كان حول الشيخ بخيت من أهله وأصحابه، حتى طالبه البعض بأن يأخذ معه كفنه، تعبيرا عن خوفهم على حياته.وذهب الشيخ بخيت إلى السلطان رابط الجأش، فلما مثل أمامه سأله السلطان: لقد قضيت بالأمس بأنني لا أصلح لنظارة وقف خيري، والآن وقد أصبحت سلطانا على مصر كلها، فهل مازلت عند قضائك؟ فأجابه على الفور نعم ما زالت عند قضائي، ولو عرضت عليّ القضية مرة أخرى لقضيت فيها بمثل ما قضيت أمس!! فإذا بالسلطان حسين كامل يقول له على الفور: إذاً أنت أصلح من يكون مفتيا للديار المصرية، وتبوأ هذا المنصب من سنة 1915 الى سنة 1920.حق القضاة في اتخاذ إجراءات جماعية لحماية استقلالهموفي تقديري الشخصي أن قرار الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة سالف الذكر، رغم مخالفته للتعديل التشريعي لطريقة اختيار رؤساء الهيئات القضائية بالقانون رقم 13 لسنة 2017، هو استخدام القضاة لحقهم في حماية استقلالهم وحماية العدالة، وهو ما أجازه إعلان ميلانو للمبادئ الأساسية لاستقلال القضاء، الذي أقرته الأمم المتحدة والذي جاء فيه ما يلي: وحيث إن القضاة مكلفون باتخاذ القرار الأخير بشأن حياة المواطنين وحرياتهم وحقوقهم وواجباتهم وممتلكاتهم، فمن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية.ووفقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يحق لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتع بحرية التعبير والاعتقاد، وأن تكون للقضاة الحرية في تكوين جمعيات القضاة أو غيرها من المنظمات لتمثيل مصالحهم، دفاعا عن استقلالهم الذي يجب أن ينص عليه دستور البلد أو قوانينه. ومن حيث إن القضاة قد حالت بينهم وبين عقد الجمعيات العمومية لنواديهم للتشاور حول التعديل التشريعي سالف الذكر، الذي يمس استقلالهم ويخل بحسن سير العدالة، عندما تقدموا بطلباتهم لعقد هذه الجمعيات فلم يحصلوا على موافقة السلطة المختصة بذلك، فإن من حقهم أن يتخذوا، من جمعيتهم العمومية التي عقدوها لاختيار ثلاثة من أقدم سبعة مستشارين لرئاسة مجلس الدولة طبقا للقانون رقم 13 لسنة 2017 سالف الذكر، منبرا لرفض هذا القانون ورفض هذا التعديل التشريعي.وللحديث بقية حول تداعيات هذا القرار إذا كان في العمر بقية.
مقالات
ما قــل ودل: قاضي تيران وقاضي السلطان
21-05-2017