فارس الوردة
الموسيقي الألماني ريتشارد شتراوس (1864 - 1949) تميز في إبداعين: في فن "القصيدة السيمفونية"، وفن الأوبرا، الأول عمل سيمفوني يعتمد حكاية أو نصاً شعرياً أو لوحة، ويتمتع الشكل فيه بحرية تتجاوز صرامة "الشكل" الذي تلتزم به السيمفونية. عُرف هذا الفن على يد الموسيقي الهنغاري Liszt أول مرة، وارتفع إلى ذراه على يد شتراوس هذا، وله منه "دون جوان"، "دون كيشوت"، "الموت والبعث"، و"هكذا تكلم زرادشت".أما فن الأوبرا، الذي لا يحتاج إلى تعريف، فله منه أكثر من 15 عملا، أغلبها رائع، وكانت موسيقاها مفتتحاً لاستخدام عنصر "التنافر"، بدل الانسجام، الذي ميز "الحداثة" الموسيقية. كان شتراوس بالغ التواضع، مع علو مقامه. كان يقول عن نفسه: "أنا أفضل موسيقيي الدرجة الثانية"، وهو ليس كذلك بالتأكيد. من أعماله الأوبرالية واحد محبب إلى نفسي هو "فارس الوردة"Der Rosenkavalier وضعه، بالتعاون مع الشاعر "هوفمانستال" Hofmannsthal، عام 1911. شاهدته في دار الأوبرا الملكية عام 1985، وكان معي الراحل نجيب المانع، وأذكر أنه حين خرجنا منتشين، التفت إلي قائلا: "لعلي أموت الليلة دون أسف، بعد هذا العرض الذي سمعتُ فيه السوبرانو "كيري تي كانَوا" تغني، وجورج شولتي يقود الأوركسترا".
وكان نجيب المانع، بفعل اندفاعاته المتحمسة، يذهب مع النشوة الموسيقية هذا المذهب دائماً. وكيري انسحبت من العروض الأوبرالية الآن، وانصرفت إلى الغناء الأوبرالي المنفرد. قبل أيام حضرتُ نقلاً حياً عن دار الأوبرا "ميتروبولِتان" في نيويورك، لأوبرا "فارس الوردة" على شاشة سينما في لندن، تقوم بالدور الرئيسي فيها السوبرانو الأميركية المتألقة "رينيه فليمينغ" Renée Fleming (مواليد 1959)، كآخر مساهمة لها في العروض الأوبرالية. ولقد شعرت بأن صوتها شحبَ قليلاً، وأن دورها الرئيسي غُلب على أمره، وأعطى المخرجُ ثقلاً لشخص آخر رئيسي في الحكاية، لكي يوفر معادلة مقنعة. تتلخص الحكاية، التي تدور في فيينا القرن التاسع عشر، في أن الأميرة "مارشالن" ذات علاقة حب بالكونت الشاب الملتهب العاطفة "أوكتافيان"، رغم فارق العمر بينهما. يقضيان الليل معاً، وفي الصباح يختبئ في ركن، حين يحضر، على غير توقع، ابن عمها البارون "أوكس" الذي يقاربها سناً. فخور بطاقته الرجولية حد الهلوسة، وهو محور الطابع الكوميدي للأوبرا. وحين تعرف منه أنه بسبيل الزواج من الشابة "صوفي"، ويطلب منها أن تقترح شخصاً يقوم، وفق التقاليد، بدور "الفارس" الذي يقدم "الوردة" الفضية للزوجة الشابة. تقترح له حبيبها "اوكتافيان"، الذي يخرج لهما، خشية اكتشافه، بلباس فتاة وصيفة. يبدأ "أوكس" كعادته بمغازلتها. حين تخلو الغرفة للأميرة تتأمل بقرف خطبة البارون لفتاة في عمر ابنته، ويجتاحها أسى حين تستحضر حبها هي للشاب "أوكتافيان". تُظهر هذه العاطفة له وتنصحه بحب آخر يليق بعمره.في الفصل الثاني يلتقي "اوكتافيان"، الذي يحمل "الوردة"، بالعروسة "صوفي"، وهي في ذروة أساها من زواجها غير المتكافئ، فيتحابان. وفي الفصل الثالث، بعد أن يُفتضح أمر البارون بأنه متزوج، وله عائلة، وبعد أن تكتشف الأميرة "مارشالِن" العلاقة الوشيكة بين "أوكتافيان" و"صوفي"، تبلغ الأوبرا ذروتها في اجتماع العشاق الثلاثة بأغنية ثلاثية بالغة الجمال والشهرة معاً، تبدأها الأميرة:مارشالِن: الآن أو غداً، ألم أقل أنا الحقيقة؟/ أن ما من امرأة تفلت من هذا المصير المقدّر؟/ ألم أكن أعرف الحقيقة؟/ ألم أُقسم بأني، بكل تواضع القلب والروح،/ سوف أتحمل وطأة الصدمة.وتنتهي بثنائي العاشقين الشابين: أوكتافيان: الهناءة أعمق من أن تُفهم،/ في المسرة يداً بيد/ تتوهج السنوات المقبلة كالشمس/ أمام عيني.صوفي: هل أحلم بأننا معاً نقف،/ في المسرة يداً بيد؟/ يداً بيد أبداً بلا نهاية.كل شيء داخل بهو السينما يشبه بهو دار الأوبرا. في فرصة الاستراحة يطيب للمشاهدين تناول ساندويتش مع الكأس، أو الاكتفاء بعلبة آيس كريم. موسيقى شتراوس تتناوب على الروح بالاستثارة المتوترة، وبالاستسلام لدعة تشبه الحلم.