ليس دفاعاً عن الدولة الوطنية
تتعرض الدولة الوطنية في العالم العربي لهجوم مستمر سواء على مستوى وجودها الفعلي أو على مستوى ضرورتها وأهميتها ودورها الحيوي، فالتنظيمات الإرهابية المنتشرة في الساحة انتشار الفطر المسموم تهدد وجود الدولة الوطنية وتستهدف تقويض المقومات المدنية التي قامت عليها عبر قرنين، على امتداد الساحة. وفِي العديد من الدول العربية تجد جماعات وتنظيمات إرهابية وأيديولوجية، وميليشيات انقلابية تنازع الدولة الوطنية، وتشهر السلاح في وجهها، ليس السلاح التقليدي القديم، السيوف والرماح، إنما الصواريخ والمدافع، بل عند بعض الميليشيات الخارجة على الدولة من السلاح ما لا يوجد عند الجيش النظامي للدولة، وكل هذه التنظيمات المنشقة على دولها تسعى إلى تدمير الدولة القائمة وتقويض مؤسساتها وبث الفوضى والاضطراب فيها، أو إضعافها أو مشاركتها السلطة إذا لم تستطع الاستيلاء عليها، والأمثلة على ذلك: ليبيا، اليمن، العراق، لبنان، الصومال... إلخ. وهي في النهاية تمثل مشروعات تفكيكية للدولة إلى دويلات عنصرية متعصبة، وولاءاتها تتجاوز حدود الدولة الوطنية إلى أطراف خارجية إقليمية ودولية، كما أن مفهومها للمواطنة مفهوم أيديولوجي ضيق، ينحصر في المنتمين إليها، وجميعها تتوسل بالدِّين والشعارات الدينية غطاءً لأهدافها السياسية، وكسباً للرأي العام وصولاً إلى الاستيلاء على السلطة.
تعرضت الدولة الوطنية لهجاء وذم من 3 تيارات سياسية رئيسة، أدت دوراً بارزاً في تشويه مفهوم الدولة الوطنية في الوعي الجمعي العربي، أول هذه التيارات: التيار القومي المتبني الدولة القومية الموحدة للعرب والجامعة للرابطة القومية، الدولة الوطنية، لدى هذا التيار، من مخلفات سايكس بيكو، التي قسمت الدول العربية لمصالح استعمارية، وهي معوقة للدولة القومية، ومن ثم ينبغي العمل على تجاوزها وصولاً إلى الدولة الحلم، في حين سعى التيار اليساري إلى دولة الطبقة الكادحة التي تجمع العمال في جميع الدول العربية، في تخط للدولة الوطنية وصولاً إلى الدولة الشيوعية الجامعة للكادحين، وجاء الإسلاميون المنادون بالخلافة ليتجاوزوا الدولة الوطنية إلى الدولة الجامعة للمسلمين. هذه الطروحات المناهضة للدولة الوطنية أسهمت بشكل كبير في تشويه صورتها في الذهنية العربية، ولا أدل من أن الميليشيات العقائدية المناهضة تجد مناخاً مواتياً في الساحة لانضمام الشباب إلى مشروعها المناوئ للدولة، وَقَد ساعد في إضعاف فكرة الدولة الوطنية، وعدم ترسيخ جذورها، أن الدولة نفسها ساهمت في تشويه صورتها، بمسلكياتها الظالمة، وسياساتها التمييزية، وفضلاً عن تنكرها لوعودها، ونكولها عن تفعيل دساتيرها حول العدالة والمساواة والحريات، وإخفاقها في تفعيل المواطنة، بأن رابطا يعلو روابط القبلية والطائفية والدينية والقومية، مما جعل الفرد العربي متعصباً لقبيلته وطائفته وجماعته الدينية والقومية، محتمياً بها من ظلم الدولة، باعتبارها الملاذ الآمن من جهة، ومعبراً للمغانم والمصالح والنفوذ من جهة أخرى، إضافة إلى فشل الدولة الوطنية في إدارة التنوع المجتمعي بما يضمن اندماج المكونات المجتمعية الدينية والمذهبية والعرقية، وتعايشها كما حصل في الغرب، فإنها كانت سوط عذاب على مواطنيها، إذ لم يتعرض الإنسان العربي، على مر تاريخه، لممارسات السحق والقمع والتعذيب والإذلال وإهدار الكرامة، كما حصل له في أقبية سجون الدولة الوطنية المرعبة، وكما هو حاصل اليوم في سورية وليبيا من قتل وتشريد وتهجير، وما ثورات الربيع إلا من أجل استعادة الكرامة المهدرة. هذا التاريخ المظلم للدولة الوطنية هو الذي دفع بعض الكتاب إلى الكفران بها، طبقاً للكاتب اللبناني حسام عيتاني، الذي كتب مقالاً بعنوان: لغو الدولة الوطنية، يرد به على الأمين العام للجامعة، أحمد أبو الغيط، ومدير مركز الأهرام ضياء رشوان، اللذين ذهبا إلى أن المرحلة الحالية تتطلب حشد الفكر والجهد للدفاع عن وجود الدولة الوطنية، ولو كانت مستبدة، طبقاً لرشوان لأن البديل هو التشرد في الصحارى والموت الناجز.أخيراً: ومع ذلك، ومهما كانت سيئات ومساوئ الدولة الوطنية، علينا الدفاع عن وجودها، دفاعاً عن وجودنا، لكن مع التصدي لطغيانها، وقديماً قالوا: "سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم".*كاتب قطري