التعامل بجدية مع النمو في منطقة اليورو
إذا تمكن رئيس فرنسا الجديد إيمانويل ماكرون من الحصول على الدعم الكافي في الجمعية الوطنية في انتخابات يونيو، فربما يستطيع أن يفعل شيئا حيال خفض الإنفاق الحكومي الهيكلي في فرنسا، في حين يواصل خفض الضرائب وتحسين مرونة سوق العمل.
كنت خارج عالَم التمويل الدولي والتنبؤ الاقتصادي منذ أكثر من أربع سنوات، ولكن الكثير مما تعلمت خلال سنوات عملي الثلاثين بدوام كامل في الميدان ما زال يؤثر في الكيفية التي أنظر بها إلى العالَم، ويتلخص أحد الدروس التي تعلمتها في قياس الأداء الاقتصادي والمالي لأي كيان من خلال مقارنته بإمكانات ذلك الكيان الكامنة وتقييم السوق لأدائه، ويقودنا تطبيق هذا النهج على الاقتصادات الكبرى إلى بعض الملاحظات، والاحتمالات، المدهشة.فبادئ ذي بدء، خلافا للاعتقاد الشائع، لم يكن النمو العالمي مخيبا للآمال بشكل خاص حتى اللحظة الراهنة من العقد الحالي، فمنذ عام 2010 حتى عام 2016، ارتفع الناتج العالمي بمعدل 3.4% سنويا في المتوسط، وفقا لتقارير صندوق النقد الدولي، وربما يكون هذا المعدل أقل من المتوسط في الفترة بين 2000 و2010، ولكنه أعلى من معدل النمو في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وهي السنوات التي لا يُنظَر إليها عادة على أنها كانت مخيبة للآمال اقتصاديا.ويقدم لنا تحليل أداء بلدان بعينها المزيد من الأفكار والرؤى، فعلى الرغم من الصدمة السياسية الكبيرة، كان أداء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة متماشيا مع التوقعات، كما كان نمو الصين والهند واليابان قريبا من إمكاناتها، وفي مصادفة نادرة، لم يتمكن أي اقتصاد كبير من تجاوز إمكاناته بشكل كبير.
غير أن ثلاثة اقتصادات منيت بخيبة أمل حقيقية: البرازيل وروسيا ومنطقة اليورو، تُرى هل يعني هذا أن العديد من المراقبين، وأنا منهم، بالغوا في تقدير إمكانات هذه الاقتصادات؟ أو أن هذا يعكس ظروفا معرقلة؟ إن كان الاحتمال الأخير صحيحا، فمن الواجب علينا أن نتساءل ما إذا كانت التطورات أو التحولات الجديدة في أي من هذه الاقتصادات أو ثلاثتها لتفاجئنا، خلافا للتوقعات الغالبة، على الجانب الإيجابي، على مدار السنوات المتبقية من هذا العقد.وعندما يتعلق الأمر بمنطقة اليورو، فإن مجرد تصور فكرة اقتراب النمو الاقتصادي هناك من الانطلاق ربما يكون كافيا، على الأقل حتى وقت قريب، لإحالة المرء إلى متخصص في الصحة العقلية. ولكن في حياتي القديمة كنت سأشجع المحللين على إنفاق المزيد من الوقت في النظر في هذا الاحتمال، لأنه لو صحت هذه الفكرة الغريبة فربما يصبح من الممكن جني قدر كبير من المال في الأسواق المقيمة بسخاء اليوم.والواقع أن احتمال ارتفاع النمو في منطقة اليورو ربما يكون مجنونا جزئيا فقط، فمن المنظور الدوري نستطيع أن نعتبر أداء منطقة اليورو طيبا في الوقت الحالي سواء وفقا لمقاييس المنطقة أو مقارنة باقتصادات أخرى، ففي الربع الأول من هذا العام، كان النمو في منطقة اليورو أكثر قوة من النمو في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، وقد أظهرت أغلب الدول الأكبر في منطقة اليورو نموا نسبيا أقوى لبعض الوقت.ومع هذا تظل التوقعات البنيوية الطويلة الأمد لمنطقة اليورو غير ملهمة، إذ تبدو آفاق الدافعين الرئيسيين للنمو في الأمد البعيد- حجم ونمو السكان في سن العمل والإنتاجية- قاتمة في دول منطقة اليورو الأكبر حجما، وحتى ألمانيا صاحبة الاقتصاد الوحيد الذي كان أداؤه على ما يرام من المنظور الدوري باعتراف أغلب المراقبين.ولكن- على سبيل الاستغراق في الفكرة الغريبة حول احتمال حدوث ارتفاع وشيك في نمو منطقة اليورو- ماذا لو تغير عنصر ما بدرجة تكفي لتعزيز محركات النمو؟ مع استمرار تدفق اللاجئين- وكثير منهم في سن الشباب- إلى أوروبا من الأجزاء المضطربة في الشرق الأوسط وإفريقيا، قد لا يكون هذا الاحتمال خياليا تماما. بطبيعة الحال يتطلب استغلال إمكانات اللاجئين استيعابهم في المجتمعات والاقتصادات الأوروبية، وهو التحدي الذي يقلق الكثير من الأوروبيين على نحو مبرر، ولكن إذا تحقق هذا الاحتياج فسيعمل هذا بكل تأكيد على تخفيف التحدي الديموغرافي المتصاعد في أوروبا، وخصوصا في ألمانيا وإيطاليا.ومن المحتمل أيضا أن تُفضي التطورات الجديدة إلى نهج سياسي أكثر إيجابية، فقد شهدت المواقف المالية في أغلب دول منطقة اليورو في السنوات الأخيرة تحسنا كبيرا، حتى أن العجز المالي على نطاق منطقة اليورو بالكامل أصبح الآن أقل من 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا أفضل كثيرا من الحال في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة. وعلاوة على ذلك تعمل العائدات الضريبية المرتفعة في بعض أجزاء منطقة اليورو، وخصوصاً ألمانيا، على تغذية فوائض مالية ضخمة إلى حد محرج، فهل تكون اللحظة الحالية الوقت المناسب للدفع في اتجاه جهود تحفيزية طموحة بقيادة فرنسية ألمانية؟إذا تمكن رئيس فرنسا الجديد إيمانويل ماكرون من الحصول على الدعم الكافي في الجمعية الوطنية في انتخابات يونيو، فربما يستطيع أن يفعل شيئا حيال خفض الإنفاق الحكومي الهيكلي في فرنسا، في حين يواصل خفض الضرائب وتحسين مرونة سوق العمل، وربما يكون إصلاح سوق العمل بشكل خاص أمرا بالغ الأهمية، ليس لفرنسا فحسب، بل أيضا لإقناع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إذا عادت إلى السلطة في سبتمبر الحالي، بالتحرك نحو قدر أكبر من التكامل، بما في ذلك إنشاء منصب وزير مالية لمنطقة اليورو، وهو ما يدعو إليه ماكرون.ربما يكون كل هذا رهانا بعيد الاحتمال، ولكنه ليس أبعد احتمالا مما كان قبل بضعة أشهر، وفي ضوء تقييمات السوق، ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للاهتمام من التركيز على العديد من القضايا الأخرى التي تثير هوس المحللين هو استكشاف مثل هذه الاحتمالات.واستغراقا في هذا السيناريو، ربما يكون بوسعنا أن نحلم حتى بتوقعات متفائلة بشأن الميزان التجاري في المملكة المتحدة، حيث يعمل سعر الصرف التنافسي على تحسين الطلب بشكل كبير في سوقها الرئيسة، منطقة اليورو، وربما يعوض هذا عن التحديات التي تنشأ بفِعل انتهاء القدرة على الوصول إلى السوق الموحدة، وبهذا ربما بلغ الوهم منتهاه، ولكن لا أحد يستطيع أن يجزم عن يقين.* جيم أونيل* رئيس غولدمان ساكس لإدارة الأصول والسكرتير التجاري لوزارة الخزانة في المملكة المتحدة سابقا، وأستاذ الاقتصاد الفخري في جامعة مانشستر، والرئيس السابق لمراجعة الحكومة البريطانية لمقاومة مضادات الميكروبات.«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»
المواقف المالية في أغلب دول منطقة اليورو شهدت في السنوات الأخيرة تحسناً كبيراً