يملك النهام والفنان سلمان العماري حساً فنياً مرهفاً، يمزج بين انتقاء الكلمة المغناة، إضافة إلى القدرة على أداء اللون الغنائي الأصيل، فذائقته الفنية تجنح نحو التراث الغنائي الكويتي، فينتقي من فن الصوت أجمله ومن الغناء القديم أعرقه، فيدندن على آلة العود أصعب الألحان، لأنه يعشق التحدي فلا يثنيه عن مراده أي عقبات، معتمداً على قوة إصراره وصلابة عزيمته.

ويمد العماري الوصل بين جيل الرواد والجيل الحالي من خلال أداء أغنيات النجوم الكبار في الكويت والخليج، متمسكاً بالتراث الفني لهذه المنطقة، رافضاً تقديم أعمال فنية معاصرة، إذ يرى أن إعادة تقديم الأغنيات القديمة بشكل جديد يحافظ على خصوصية هذا الإرث الفني، واجب وعرفان بالجميل للذين نهل من فنونهم وطريقة أدائهم.

Ad

في الحلقة الأولى من حواره مع «الجريدة»، يستدعي الفنان العماري ملامح من ذكرياته في الطفولة والمراهقة وشغفه بالاستماع إلى كبار المطربين، مؤكداً أن ذائقته الفنية بدأت تميل إلى التراث الغنائي بشقيه البحري والبري منذ الصغر، فكان يجذبه صوت النهمة واليامال، وفي الوقت ذاته كان يطرب لضربات أوتار العود في الغناء البدوي.

ويسرد العماري حكاية دخوله المجال الغنائي، مبيناً أنه لم يدر في خلده يوماً أن يصبح مطرباً بل أشعل التحدي في نفسه أحد الأصدقاء حينما أخبره أنه لا يستطيع الغناء والعزف على آلة العود، فراح يتدرب بجد ومثابرة ليثبت أن حكم صديقه لم يكن صائباً بل كان مجرد كلام عابر سيذهب أدراج الرياح مع أول أغنية يدندن فيها العماري أمام صديقه. وفيما يلي التفاصيل:

● كنت شغوفاً بالغناء منذ الصغر، لكن أجلت دخولك المجال الفني حتى بلغت 21 عاما، لماذا؟

- نعم، كنت متذوقا جيدا للفنون الشعبية الجميلة وأطرب لسماعها، ودأبت على البحث عن الجديد أو المختلف، لكن لم يدر في خلدي أني سأدخل إلى الساحة الغنائية يوما، وأنضم إلى قائمة المطربين وأترك الجمهور، وأذكر أني كنت خلال مرحلة الطفولة والمراهقة، وكذلك مرحلة بواكير الشباب أشنف أذاني منصتا بحب وإعجاب لفن الصوت.

وكان يجذبني الفنان الكبير حمد خليفة، فهو فنان كبير ساهم في تقديم أعمال فنية خالدة، ولديه إمكانات غنائية هائلة، ومن المطربين الذين كنت أحرص على سماعهم المغني فيصل العلوي والمغني كرامة ومرسال، إضافة إلى ذلك كنت مستمعا جيدا للغناء البدوي عيسى الحسائي وفهد السعيد وطاهر الحسائي وغيرهم من الفنانين، ومازالت حتى الآن أحفظ أغنياتهم وأرددها من حين لآخر.

● حينما أصبحت مغنياً، ما الذي قدمته لهؤلاء الفنانين؟

- حرصت على إعادة أغنياتهم وتراثهم الفني من خلال الحفلات التي أحييها، فمن الواجب علي أن من تتلمذت على أصواتهم ونهلت من فنونهم، أن أساهم في إحياء تراثهم الفني والمحافظة عليه من الاندثار.

عقب مرحلة التذوق الطويلة التي استغرق منك نحو أكثر من عقد من الزمن، كيف اتخذت قرار الغناء؟

ثمة حكاية تحد دفعتني إلى خوض غمار المجال الغنائي، وفي تفاصيلها أن أحد أصدقائي قال لي إنك لا تستطيع العزف على آلة العود أو الغناء، هنا عقب هذه الجملة التي فوجئت بها، دب في أوصالي التحدي، فأردت أن أثبت لهذا الصديق أني أستطيع بلوغ الهدف طالما أني وضعته نصب عيني، فأنا أملك من القوة والجسارة والجلد ما يعينني في تحقيق طموحي، وبدأت التدريب على العزف في عام 1987.

● هنا كانت نقطة التحول، فالتحدي دفعك إلى الغناء، وربما التحدي ذاته هو الذي دفعك إلى التميز في العزف وليس فقط الإجادة.

- فعلا، هذا ما حدث، وما ساعدني أكثر أن شقيقي الكبير يعزف على آلة العود، ولا أخفي عليك أن بداية التدريب على العزف على آلة العود لم تكن سهلة، بل واجهت صعوبات كثيرة في بدايتها أني منذ الصغر كنت مولعا بسماع الأغنيات وليس العزف، ولم أجرب يوما "الدندنة ع العود"، لذلك الخطوات الأولى، كما أشرت لك، لم تكن مبشرة بالخير، لكن الدافع الذي يسكن أعماقي لم يدع لي مجالا للإخفاق، فأنا لا أحب التقهقر أو التراجع عن حديث تفوهت به أو وعد قطعته على نفسي، وربما هذه الصفات لا يعرفها الجمهور، بينما يدركها جيدا المقربون مني، فالتحدي يدفعني إلى مواجهة العقبات مهما كانت، وبدأ مشوار تعلم العزف، وكانت أناملي تنفر أحيانا من العود، لكن الإصرار الذي في داخلي يحضني على الاستمرار، وعقب إخفاق في تقديم نغمة على الأوتار ثم الاهتداء إلى الطريقة السهلة في العزف وحدوث تآلف بين أناملي والعود، بدأت أعزف أغنية وأخرى إلى أن أتقنت العزف، وكان هناك دور لشقيقي الكبير، لأنه كان يملك عودا، وهو من يقوم بضبطه لي ودوزنته، وعقب عامين تقريبا من التدريب الذاتي - إذ لم أستعن بأحد لتدريبي، ولم أفضل الانضمام إلى أحد المعاهد للتدريب على العود - بدأت أعزف أمام الجمهور في سمرات وحفلات خاصة.

قصائد عنترة بن شداد

يروي الفنان سلمان العماري ملامح من ذكريات طفولته، مبينا أنه يهوى الشعر، وكان من أصحاب المستوى المتوسط في التحصيل العلمي، لكنه لم يكن يميل إلى سماع الموسيقى أو يحب مادة الموسيقى، بينما كان يجذبه الشعر، لذلك كان ينشده، ويقول ضمن هذا الجانب: "أذكر أني في المرحلة الابتدائية بالمدرسة كنت أنشد بعض ما أحفظه من قصائد، مقتنصا أي فرصة أمام أقراني، فكنت أتخيل نفسي أحيانا فارسا كعنترة أو عاشقا لمرؤ القيس، من الأبيات التي كنت أحرص على إنشادها بين فترة وأخرى للشاعر عنترة بن شداد:

وسيفي كان في الهيجا طبيبــا

يداوي رأس من يشكو الصداعا

أنا العبد الذي خُبّـرت عنـه

وقد عاينتني فدعِ السمـــاعا

ولو أرسلت رمحي معْ جبــان

لكان بهيبتي يلقى السبـــاعا

ملأت الأرض خوفاً من حسامي

وخصمي لم يجد فيها اتســاعا

إذا الأبطال فرت خوف بأسـي

ترى الأقطار باعاً أو ذراعـــا

نشوة عارمة

● ماذا شعرت عقب بلوغ هدفك؟

- أكيد أن ثمة نشوة عارمة انتابتني عقب "السمرة" الأولى التي شاركت فيها، لكن النشوة كانت تأتي تدريجيا، لأن رحلة تعلم العزف استغرقت عامين، فكنت أشعر بالفرح عقب تجاوز مرحلة مهمة في العزف أو أداء لحن صعب، ودفعني ذلك إلى البحث عن الأفضل دائما، وأردت أن يميزني أداء معين أو نوع غنائي صعب، فلاحظت أن معظم السمرات تغني ضمن "دوزان" إيقاع واحد، فوجدت أن إمكاناتي الصوتية تؤهلني إلى الذهاب بعيداً في مساحة الصوت، فكنت أسعى إلى رفع إيقاع العزف ليرتقي صوتي أعلى، فكان هذا ما أبحث عنه، واشتهرت عن مرتادي السمرات، فكانوا يشيدون بإمكاناتي الصوتية وطريقتي بالغناء، إضافة إلى العزف على آلة العود.

وفي هذه الفترة، بدأ الاعجاب يتضاعف، ولأصدقك القول فإن الغناء لفت انتباه الجمهور لي وليس العزف، لأنه كان يبدو مكملا، لاسيما أني كنت أعزف فقط "اللزم" في العود وليس عزفاً كاملا، وهذا ليس انتقاصا من قدراتي، فكان باستطاعتي تقديم أصعب الألحان.

جلسات غنائية

● هل كنت تعتمد على الغناء أو العزف في تلك الفترة من عام 1988؟

- صوتي هو جواز مروري للمستمعين، إذ كنت أحرص على أبراز إمكاناتي الصوتية بالغناء الشعبي المتنوع، وبدأت الشهرة تتسع رويداً رويداً، ومع مرور الوقت بدأ بعض الأصدقاء يدعونني إلى إحياء سمرات خارج نطاق المجموعة التي اعتدت الغناء لها، إذ كنا نجتمع في مكان معين للغناء والتنافس فيما بيننا، وهذه الجلسات الغنائية كانت بمنزلة التدريب اليومي لصقل مهاراتنا بالعزف والغناء.

● هل كان هناك بعض الفنانين ضمن مجموعتكم الخاصة؟

- لا، نحن لم نكن فنانين، بل هواة يعشقون الفن الجميل ويعزفون ويغنون بعفوية، كما أن هناك إيقاعيين وليسوا من المحترفين، بل من الهواة، فما كان يجمعنا حب الفنون الشعبية ولسنا باحثين عن شهرة أو غيره، بل نبحث عن إغناء ذائقتنا الفنية.

مدارس فنية

● ما الذي كنتم تقدمونه في تلك الفترة؟

- كنا نركز على فن الصوت بمختلف ألوانه، وعقب ذلك بدأت تقديم ألوان أخرى، ولم يكن غنائي مقتصراً على أعمال الفنان حمد خليفة، بل انتقلت إلى مدارس أخرى، وأنا أسمي هؤلاء الفنانين بالمدارس لأنهم يستحقون ذلك، ومنهم الفنان ضاحي بن وليد ومحمد الفارس، والآن انتقلت إلى مدرسة أخرى فارسها الفنان محمد زويد، وحاولت استثمار هذا الاطلاع والإجادة في الغناء، لذلك بدأت أغني بأكثر من طريقة في الأغنية الواحدة، بمعنى أن أغني البيت الأول من القصيدة بطريقة أداء محمد فارس، والبيت اللي يليه وفقاً لأسلوب الفنان حمد خليفة، وآخر على طريقة محمد زويد وهكذا.

حمد خليفة من أبرز فناني الصوت في الخليج

يعتبر الفنان سلمان العماري أن الفنان حمد خليفة من أبرز فناني الصوت لما يمتلكه من إمكانات فنية كبيرة، إذ يعد خليفة أحد أبرز المطربين الذين ساهموا، بكثير من الجهد والعطاء المخلص، في مسيرة الحركة الغنائية الكويتية، فهو من مؤسسي جمعية الفنانين الكويتيين، كما تميز بتقديم الصوت الكويتي القديم الأصيل، كذلك غنى الأغنية الشعبية، وحصد نجاحاً وحب الجمهور، الراصد لمشوار الفنان حمد خليفة يرصد أنه عصامي، إذ اعتمد على نفسه، فوصل إلى القمة مع نجوم ورواد الأغنية الكويتية، نشأ في فريج المواش بالحي القبلي، وهو من مواليد الكويت 1929، وتجرع مرارة اليتم وهو صغير، إذ توفي والداه في سن مبكرة، فعاش طفولته يتيماً.

اشتهر حمد خليفة وعرف محلياً باسم حمد مونس لفترة طويلة، اعتقد البعض أن هذا اسمه الحقيقي وفسره البعض بأن كلمة مونس تعني أنيساً بالجلسة والطرب، خصوصا أنه معروف عنه خفة دمه وصاحب نكتة بين أصدقائه، الصحيح أنه اسم لقب عائلة والدته، وقد تغلب لفترة على اسمه الحقيقي.

طبع اسمه على الأسطوانات تحت اسم حمد خليفة الكويتي، وقد استعمل هذه الطريقة فنانون سابقون مثل عبداللطيف الكويتي ومحمود الكويتي.

وسجل خليفة أولى أسطواناته عام 1949 في البحرين لحساب طه صبري، صاحب محل أسطوانات طه، الأولى أغنية بعنوان "قال منهو تولع"، والأسطوانة الثانية لأغنية "يا حبيب الروح".

وعندما بدأت الإذاعة الكويتية بثها الرسمي، سجل خليفة أغانيه وبدأ مشواره في أول أغنية في عنوان "بالهوى قلبي تعلق"، وهي عبارة عن كلمات دينية قديمة حولها حمد خليفة وطورها إلى أغنية من فن الصوت، وفي عام 1960 صور حمد خليفة لمصلحة تلفزيون الكويت أصواتا عدة من بينها "وصلت حالي"، "ما بين الهم والكمد"، وأغنية "يا ساري الليل". حمد خليفة أحد المطربين الكويتيين الذين أجادوا غناء الصوت بأنواعه، والألوان الأخرى كالأغاني العدنية، إجادة تامة، والمواويل البحرية. تميز بأنه صاحب أسلوب خاص في العزف على آلة العود، يختلف عن الرواد الذين سبقوه، فهو يعزف بأصبعين ويجيد العزف بهما إجادة تامة، ولم يقلد أحدا، بل جعل لنفسه أسلوباً خاصاً يميزه عن غيره من الفنانين.

قدم الفنان القدير حمد خليفة إلى المكتبة الغنائية أكثر من 500 أغنية بين عاطفية ووطنية ودينية، وله في الأسواق نحو 80 شريطا يحتوي على أصوات وجلسات شعبية وأغان عاطفية مطورة.

تزخر مسيرته الغنائية الطويلة بمشاركات متميزة في الحفلات العامة والخاصة التي أقيمت في عواصم عربية من بينها: جمهورية مصر العربية، دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين.