في الحنين إلى الثقة
الكثير منا يجد نفسه مرغما على التعامل مع مؤسسات واختصاصيين لا بد أن يتعامل معهم، على الرغم من أنه في قرارة نفسه لا يثق بهم، وعلى هذا النحو نمضي حتى أجل غير مسمى في مكابدة الفساد والحنين إلى ثقة لم تعد موجودة.
تتحفنا مواقع التواصل الاجتماعي بسيل من وقائع الفساد مستلة من مختلف المؤسسات والهيئات والتنظيمات المحلية، والبراهين والقرائن عليها أقوى من أن تدحض أو يستخف بها، وأحد الأسباب التي تجعل من الفساد موضوعا على قدر كبير من الأهمية أنه في وجه من وجوهه مؤشر على بداية طرق دروب الاضمحلال والتفسخ المجتمعي. كذلك الفساد ظاهرة قاتلة لأنه قابل للنماء في كل مكان وكل تجمع إنساني ودولة، ولئن كان الميدان السياسي حضنه الدافئ فإن ثمة ميادين أخرى يعلو بها نجم الفساد مثل وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية والتعليم والرياضة وقطاع الأعمال وحتى المؤسسات الدينية.
على أي حال عندما نتحدث عن تعريف الفساد في الميدان السياسي فإننا نبصر تعريفا ينهض على فكرة وجود طرفين، بحيث يمكن القول إن الفساد يستلزم لتحققه أن يكون هناك طرفان، غير أن مفهوم الفساد في أعماقه يختزله التعريف المعتمد في البنك الدولي، والذي لا يشترط وجود أكثر من طرف، وعلى النحو الذي يجري تعريفه على أنه استغلال الوظيفة العامة لتحقيق المصلحة الشخصية.وأخطر من ذلك، أن الفساد يأتي مصحوبا بانعدام الثقة بمؤسسات الدولة والمجتمع أو تدهورها، وهذا دون أدنى شك يثير مزاجا شكيا في كل التعاملات المجتمعية، وقد يصنع بمرور الوقت طرازا من الانكفاء واللامبالاة في التفاعل الاجتماعي. وفي هذا المعنى فإن الفساد، وبالطريقة التي تعريه مواقع التواصل الاجتماعي، يجعل المرء يعتقد أن ثقته بالمؤسسات غير مقدرة ولا وزن لها، فضلا عن أن المؤسسات والاختصاصيين الذين يقدمون له الخدمات لا يستحقون منحهم الثقة، والشواهد على ذلك كثيرة، مثل طبابة مسؤولي القطاع الصحي في الخارج، وتفضيل القيادات التعليمية المدارس الخاصة لأبنائهم وغير ذلك. ولكن المشكلة أن المرء يجد نفسه مرغما على التعامل مع تلك المؤسسات وهؤلاء الاختصاصيين عندما لا يكون لديه خيار آخر، على الرغم من أنه في قرارة نفسه لا يثق بهم، وعلى هذا النحو نمضي حتى أجل غير مسمى في مكابدة الفساد والحنين إلى ثقة لم تعد موجودة.