الصيام في الكويت أصبح وقته أقصر وزمنه بدأ يدخل في الشهور الأقل حرارة من العام الماضي، وهذا يشجع ويدفع للبقاء بالكويت وصيام شهر رمضان فيها، وسيكون الوقت أقصر وأبرد بالسنوات المقبلة بإذن الله، وهذا ما دفعني إلى مغادرة فرنسا والعودة إلى الكويت خاصة مع تحسن حالة الطقس.ولأول مرة أغادر باريس بدون حالة الشعور بافتقادها، وكأني تخلصت من عبء حلم ثقيل حملته عبر سنوات طويلة كان مطوياً بحنايا القلب كأمل بامتلاك بيت فيها، وبعد محاولة باءت بالفشل ولم يكتب لها النجاح ولم تتم إجراءات تملك عقار فيها بسبب تعقيد المعاملات وقت التصعيد الإرهابي، والحمد الله أنه لم يتم وقتها.
زرت باريس هذا العام بعد انقطاع ثماني سنوات لم أزرها خلالها بسبب كثرة عمليات النشل والسرقة، والحوادث المتعمدة المدروسة التي توقع بالناس مهما كانت احتياطاتهم وحذرهم، فاللصوص الأذكياء جاهزون لاصطيادهم والإيقاع بهم.وحين نزلت مطارها، وركبتي لا تساعدني على المشي بعد حادث التوائها في بولندا، حرصت على أن أنتبه في سيري وتحركي في شوارع باريس، وأن أكون بصحبة صديقة بشكل دائم، ومع مصاحبة الحيطة والحذر.تفرجت على باريس عبر نافذة السيارة فقط، تجولت ببصري عبر الشوارع المكتظة بالبشر والسيارات ولم أتجول فيها بقدمي كالمعتاد، وأن "أفلي" شوارعها وحدائقها ومتاحفها، وأن أعريها قطعة قطعة كالمعتاد، ما معنى أن تكون في باريس ولا تكون قادراً على أن ترى متاحفها والجالريات المهمة والحدائق المشهورة عبر تاريخها؟شوارعها التي كنت أعشقها بت أراها بعينين كأنهما غير عينيي اللتين كانتا تعشقانها وتحلمان بها وتتمنيانها طوال الوقت الذي كان، لكن لا شيء يبقى على حاله، سبحان مغير الأحوال، المدن تعجز وتشيخ مثل البشر، حالها من حالهم، فهذه باريس التي كانت قبلة أحلام شبابي، كبرت مثلما كبُرت، ولا أدري إن كانت نظرتي لها في هذا العمر هي التي تغيرت أم أن باريس هي بالفعل تغيرت؟!المدينة الراقية الارستقراطية الغانية الفاتنة لم تعد كما كانت تسبي الروح والقلب والبصر، بأضوائها ونظافتها وسحرها، المدينة الآن شوارعها حفريات وأعمال وأشغال، بناياتها فقدت جدتها ورونقها، الشحاذون من كل الملل يملئون شوارعها، خليط بشري "مبهدل" يملأ الطرقات يدل حالهم على مستوى اقتصادي متدنٍّ.باريس باتت مدينة متوسطية فقدت زهوها ورونق فتوتها، فالازدحامات المرورية في شوارعها وطرقاتها كارثية، أخبرتني صديقتي الفرنسية أن باريس باتت تشحذ من مواطنيها عن طريق ضرائبها، فأي مدينة قادرة على تحمل كل هذه الزيادات البشرية الضاغطة على كل مواردها؟باريس مدينة مفتوحة لكل المهاجرين واللاجئين من كل أنحاء العالم، لا أدري إن كان هناك خطط إسكانية تستوعب هذه الزيادات البشرية وما تحتاج إليه من رعاية صحية وتعليمية وتثقيفية تجعلهم أفراداً مفيدين منتجين مندمجين في مجتمعٍ هم مختلفون عنه وهو مختلف عنهم، ولا أدري إن كان هناك استيعاب لما سيحدث لهم ولفرنسا من مشاكل اختلاف واغتراب وعدم ذوبان في التركيبة الفرنسية المختلة الآن؟يبدو أن هناك مشاكل كثيرة ستكشفها السنوات المقبلة، لأنه لا يمكن ألا تكون هناك نتائج ديموغرافية متحصلة من هذه الفوضى البشرية المكبوبة في صحن باريس.هل باريس هي التي تغير وجهها، أم أن مدننا الخليجية التي نمت وتطورت بشكل سريع وجميل وباتت تتميز بالشوارع الواسعة وشبكات الطرق الحديثة السريعة، والحدائق ذات المستويات العالمية والمتاحف والجالريات وأفضل أماكن التسلية الجديدة المتطورة الغريبة الممتعة، على وجه الخصوص في دبي وأغلب الدول الخليجية، هذا إلى جانب النظافة والرقابة الصحية والحماية والأمان، ولم يعد ينقصها شيء مما يوجد في الخارج، بل باتت تتفوق في وسائل الرفاهية والتسلية على الدول الأوروبية، ربما يبقى الطقس هو السبب الدافع للسفر إلى الخارج في أشهر الصيف، وربما أيضاً للعيش في بساطة نفتقدها في مجتمعاتنا الخليجية الاستهلاكية.وأنا أغادرها في طريقي إلى المطار شعرت كأني لن أزورها مرة أخرى، وكأني أودع فيها آخر أحلامي التي عاشت معي فترات طويلة أن أمتلك بيتاً فيها، جميل أن تمنحنا المدن التي عشقناها فرصة الخلاص منها، وأن تمكنا من قطع حبل المشيمة والوصال معها، وأن نقطع الأحلام المعلقة في شجرة الأماني.
توابل - ثقافات
مدن تمنحنا الخلاص
29-05-2017