السيرة النبوية... رؤية جديدة
أفضل وأمتع ما يمكن للصائم أن يقوم به في الشهر الفضيل، تلاوة كتاب الله تعالى، وتدبر آياته، والعيش في أجوائه الإيمانية وإشراقاته النورانية، وترجمة مضامينه في حياته ومعاملاته مع أهله وأسرته وإخوانه الصائمين، الشهر الفضيل فرصة للصائم أن يمتع نفسه بدراسة سيرة رسولنا العظيم، عليه الصلاة والسلام، والتزود بالقيم الإيمانية والأخلاقية والإنسانية منها، المسلم المعاصر بأشد الحاجة إليها، في عصر طغت فيه طروحات الكراهية والتعصب والتطرف والعنف والعدوان. وفِي هذا السياق أهداني أحد الأصدقاء كتاباً عنوانه: قصص نبوية، زوايا جديدة لقصص السيرة، لمؤلفه الفاضل عبدالوهاب بن ناصر الطريري، نشر مؤسسة الإسلام بالرياض، وظننت أنه كتاب من ضمن الكتب العديدة التي تناولت حياة رسولنا، عليه الصلاة والسلام، ولن يحوي جديداً، فتركته جانباً إلى حين فراغ، ثم رجعت إليه لأقرأه مستطلعاً ما الجديد، الذي ينشد مؤلفنا أن يطلعنا عليه، وهل ترك علماؤنا السابقون رحمهم المولى تعالى أو المعاصرون، شيئاً من حياة نبينا، عليه الصلاة والسلام، لم يتناولوه؟ لكني لست مبالغاً إذا قلت إني قرأت واطلعت على معظم ما كتب قديماً وحديثا حول السيرة، فلم أَجِد كتاباً يماثله في منهجيته المبتكرة، لتوصيل أهدافه الإنسانية المحصنة للناشئة من أفكار الغلو والتعصب والكراهية، بطريقة ممتعة سلسة، ومؤثرة في الوجدان، ومنيرة لعقل المسلم، وأزعم أن من يقرأ الكتاب، سيخرج بنفسية إنسانية، أرقى وأصفى، فالمؤلف جزاه المولى تعالى خيرا،عمد إلى سيرة نبينا العظيم، عليه الصلاة والسلام، والذي وصفه المولى تعالى بأعظم وصف يناله بشر "وإنك لعلى خلق عظيم"، فاختار مشاهد وصورا باهرة من عظمة الخلق لدى الرسول عليه الصلاة والسلام، سواء في تصالحه مع نفسه أو في تعامله مع أهله أو مع صحابته أو مع قومه المعادين والمحاربين له، وسماها لوحات نبوية، تنطق بدلالات رائعة من قيم التسامح والمودة والنبل والشهامة والصدق والتوازن النفسي، ناشئتنا بحاجة إليها اليوم، تجعل من يتأملها، يرقى وجدانياً، وتفيض عيناه دمعاً.
أذكر من هذه المشاهد: 1- تعامله مع اليهود: فقد استأذن رهط منهم للدخول عليه في بيته، فلما حيوه قالوا: السام عليكم يا أبا القاسم، بدلاً من السلام عليكم، والسام هو الموت، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام فهمها، فأجاب، وعليكم، وكانت عائشة رضي الله عنها، موجودة فغضبت وقالت لهم، بل عليكم السام والذام ولعنكم الله، فأقبل عليها الرسول عليه الصلاة والسلام: مهلاً عائشة، لا تكوني فاحشة، وإياكِ والعنف والفحش، فإن الله تبارك وتعالى لا يحب الفاحش المتفحش، وعليكِ بالرفق، فإن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، يا عائشة، لم يدخل الرفق في شيء إلا زانه، ولم ينزع من شيء إلا شانه.. يتساءل المؤلف: اذا كان النبي عليه الصلاة والسلام استعمل الرفق مع أشد الناس عداوة، فمتى استعملنا الرفق في حياتنا، وفيما بيننا، ومع إخواننا الذين تربطنا بهم وشيجة الدين؟ وكيف سيكون حال مجتمعنا لو زانه الرفق في أموره؟ 2- المشرك النبيل: تجلت أخلاقيات الرسول عليه الصلاة والسلام العالية في أحد المواقف أبرزها، قوله في الأسرى، لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني فيهم لأطلقتهم، وكان المطعم مشركاً لكنه صاحب نجدة ومروءة، وأجار النبي عليه الصلاة والسلام لما عاد من الطائف، كان مشركاً نبيلاً، وقبل المعركة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين بعدم قتل البختري رغم أنه جاء محاربا، كونه له سابقة أخلاقية بنقض الصحيفة الظالمة. 3- أسر المسلمون سيد اليمامة ثمامة بن أثال، وربطوه إلى سارية المسجد، فعفا عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، فانطلق ثم رجع وأعلن الشهادتين، قائلاً: يا محمد والله ما كان على الأرض، وجه أبغض إليّ من وجهك، لقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ. وبعد، فهذه عظمة رسولنا عليه الصلاة والسلام، في تحويل أشد أعدائه إلى محب له وللإسلام، وهذه دعوة لقراءة هذا الكتاب الممتع.* كاتب قطري