لما كانت الليلة الثانية والثلاثون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد، أن رجلاً من أهل البصرة اشترى جارية فأدبها وأحسن تعليمها، وكان يحبها غاية المحبة، ثم أنفق ماله على مجالس الأنس، ولم يبق عنده شيء، وأضره الفقر الشديد، فقالت له الجارية: يا سيدي بعني لأنك محتاج إلى ثمني، ولعل الله يوسع عليك رزقك. أخذها ونزل بها السوق، وعرضها الدلال على أمير البصرة، وكان اسمه عبد الله بن معمر التيمي، فأعجبته واشتراها بخمسمئة دينار. لما قبض سيدها ثمنها وأراد الانصراف، بكت وأنشدت هذين البيتين:

هنيئا لك المال الذي قد حويته

Ad

ولم يبق لي غير الأسى والتفكير

أقول لنفسي وهي في سوء كربها:

أقلي فقد بان الحبيب أو أكثري

لما سمعها سيدها صعد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

إذا لم يكن للأمر عندك حيلة

ولم تجدي شيئاً سوى الموت فأعذري

أروح وأغدو والمؤانس ذكرهم

أناجي به قلباً شديد التفكــر

عليك سلام لا زيارة بيننا

 ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمـــــر

لما سمع عبد الله بن معمر شعرهما، قال: والله لا كنت معيناً على فراقكما، وظهر لي أنكما متحابان، فخذ المال والجارية أيها الرجل، بارك الله لك فيها، فإن افتراق الحبيبين صعب عليهما. قبّل الاثنان يده وانصرفا وما زالا مجتمعين إلى أن فرق بينهما الموت، فسبحان من لا يدركه الموت .

زوجة المتلمس

قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن غلاماً تعلّق بحب جارية كانت تقرأ معه القرآن في الكُتاب، فلما كان في بعض الأيام، انتهز الغلام غفلة الصبيان وأخذ لوح الجارية وكتب فيه هذين البيتين:

ماذا تقولين فيمن شفه سقم

من فرط حبك حتى صار حيرانـــــا

يشكو الصبابة من وجد ومن ألم

لا يستطيع لما في القلب كتمانا

لما أخذت الجارية لوحها رأت هذا الشعر، وفهمت معناه، فكتبت تحت خط الغلام هذين البيتين:

إذا رأينا محبا قد أضر به

حال الصبابة أوليناه إحسانا

ويبلغ القصد منا في محبته 

ولو يكون علينا كل ما كانا

فاتفق أن الفقيه دخل على حين غفلة، فأخذ اللوح وقرأ ما فيه، فرق لحالهما، وكتب في اللوح تحت كتابتهما هذين البيتين:

صلي مُحبِّك لا تخشي معاقبة

إن المحب غدا في الحب حيرانا

أما الفقيه فلا تخشى مهابتـــه

فإنه قد بلى بالعشــــــــاقِ أزمانا

واتفق أن سيد الجارية دخل المكتب في تلك الساعة وأخذ لوح الجارية وقرأ ما فيه من كلام الجارية وكلام الشاب وكلام الفقيه، فكتب هو الآخر هذين البيتين:

لا فرق الله طول الدهر بينكما

وظل واشيكما حيران تعبانا

أما الفقيه فلا والله ما نظرت

عيناي أفتـــح منه قط إنسانا

ثم دعا القاضي والشهود، وزوج الجارية للشاب في المجلس، وجعل لهما وليمة، وأحسن إليهما إحساناً عظيماً، وما زالا مجتمعين في هناء وسرور، إلى أن أدركهما هازم اللذات ومفرق الجماعات.

ولما كانت الليلة الثالثة والثلاثون بعد الثلاثمئة قالت شهرزاد: مما يحكى أن المتلمس الشاعر هرب من النعمان بن المنذر، وغاب غيبة طويلة حتى ظنوا أنه مات، وكانت له زوجة جميلة تسمى أميمة، فأشار عليها أهلها بالزواج فأبت، فألحوا عليها لكثرة خطَّابها وأكرهوها على الزواج، فأجابتهم إلى ذلك وهي كارهة. زوجوها رجلاً من قومها، وكانت تحب زوجها المتلمس محبة عظيمة، فلما كانت ليلة زفافها إلى ذلك الرجل الذي أكرهوها على الزواج به، قدم زوجها المتلمس، وسمع في الحي صوت المزامير والدفوف، ورأى علامات الفرح، فسأل بعض الصبيان، فقالوا له: إن أميمة زوجة المتلمس زوجوها لفلان. لما سمع ذلك الكلام، احتال حتى دخل على زوجته وهي مع ذلك الرجل الآخر، ورآها حين تقدم إليها ذلك الرجل تبكي وتنشد هذا البيت:

أيا ليت شعري والحوادث جمَّة

بأي بلاد أنت يا متلمس

وكان زوجها المتملس من الشعراء المشهورين فأجابها بقوله:

بأقرب دار يا أميمة فاعلمي

وما زلت مشتاقاً إذا الركب عرسوا

ففطن الرجل لعودة المتلمس، وخرج مسرعاً وهو ينشد:

وكنت بخير ثم بت بضدِّه

وضمكما بيت رحيب ومجلس

انصرف وتركهما، وما زالا في أطيب عيش وأصفاه، وأرغده، إلى أن فرق بينهما الممات، فسبحان من تقوم بأمره الأرض والسموات. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

حسن الصائغ البصري

كانت الليلة الرابعة والثلاثون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رجل تاجر من التجار مقيم في أرض البصرة وكان له ولدان ذكران وكان عنده مال كثير فقدر الله السميع العليم أن التاجر تٌوفي إلى رحمة الله تعالى وترك تلك الأموال فأخذ ولداه في تجهيزه ودفنه. بعد ذلك، اقتسما الأموال بينهما بالسوية وأخذ كل واحد منهما قسمة وفتحا لهما دكاكين أحدهما نحاس والثاني صائغ. بينما الصائغ جالس في دكانه يوماً من الأيام إذا برجل أعجمي يمشي في السوق بين الناس إلى أن مرّ على دكان الولد الصائغ فنظر إلى صنعته وتأملها بمعرفته فأعجبته وكان حسن اسم الصائغ، فهزّ الأعجمي رأسه وقال: والله إنك صائغ مليح. وصار ينظر إلى صناعته وهو ينظر إلى كتاب عتيق كان في يده والناس مشغولون بحسنه وجماله واعتداله. فلما كان وقت العصر خلت الدكاكين من الناس، فعند ذلك أقبل الرجل الأعجمي عليه وقال له: يا ولدي أنت شاب مليح وأنا ما لي ولد وقد عرفت صنعة ما في الدنيا أحسن منها، وسألني خلق كثير من الناس في شأن تعليمها فما رضيت أن أعلمها أحداً منهم، ولكن سمحت لنفسي أن أعلمك إياها وأجعلك ولدي وأجعل بينك وبين الفقر حجاباً، وتستريح من هذه الصنعة والتعب في المطرقة والفحم والنار. فقال له حسن: يا سيدي ومتى تعلمني؟ فأجابه: في غد آتيك وأصنع لك من النحاس ذهباً خالصاً بحضرتك.

فرح حسن وودع الأعجمي وسار إلى والدته، فدخل وسلم عليها وأكل معها وهو مدهوش بلا وعي ولا عقل، فقالت أمه: ما بالك يا ولدي احذر أن تسمع كلام الناس، خصوصاً الأعاجم فلا تطاوعهم في شيء فإن هؤلاء غشاشون يعلمون صنعة الكيمياء وينصبون على الناس ويأخذون أموالهم ويأكلونها بالباطل. فقال لها: يا أمي نحن ناس فقراء وما عندنا شيء يطمع فيه حتى ينصب علينا. جاءني رجل أعجمي لكنه شيخ صالح عليه أثر الصلاح وحننه الله عليّ. سكتت أمه على غيظ وصار ولدها مشغول القلب ولم يأخذه نوم في تلك الليلة من شدة فرحه بقول الأعجمي له. لما أصبح الصباح وأخذ المفاتيح وفتح الدكان، وإذا بالأعجمي أقبل عليه فقام وأراد حسن أن يقبل يديه فامتنع ولم يرض بذلك وقال: يا حسن عمّر البودقة وركب الكير. ففعل ما أمره به الأعجمي وأوقد الفحم. سأله الأعجمي: يا ولدي هل عندك نحاس؟ أجاب: عندي طبق مكسور. فأمره أن يتكئ عليه بالكاز ويقطعه قطعاً صغيرة، ففعل كما قال له وقطعه ورماه في البودقة ونفخ عليه بالكير حتى صار ماء، فمدّ الأعجمي يده إلى عمامته وأخرج منها ورقة ملفوفة وفتحها وذر منها شيئاً في البودقة مقدار نصف درهم وذلك الشيء يشبه الكحل الأصفر، وأمر حسناً أن ينفخ عليه بالكير ففعل مثل ما أمره حتى صار سبيكة ذهب. لما نظر حسن إلى ذلك اندهش وتحير عقله من الفرح الذي حصل له وأخذ السبيكة وقبلها وأخذ المبرد وحكها فرآها ذهباً خالصاً من عال العال، فطار عقله واندهش من شدة الفرح، ثم انحنى على يد الأعجمي ليقبلها فقال له: خذ هذه السبيكة وانزل بها إلى السوق وبعها واقبض ثمنها سريعاً ولا تتكلم. نزل حسن وأعطى السبيكة إلى الدلال فأخذها منه وحكها فوجدها ذهباً خالصاً ففتح بابها بعشرة آلاف درهم وتزايد فيها التجار فباعها بخمسة عشر ألف درهم وقبض ثمنها ومضى إلى البيت. هناك، حكى لأمه كل ما فعل وقال: إني تعلمت هذه الصنعة. فضحكت عليه وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الثلاثمئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً لما حكى لأمه ما فعل الأعجمي وقال لها إني تعلمت هذه الصنعة قالت لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وسكتت على غيظ منها. ثم أخذ حسن من جهته هاوناً وذهب به إلى الأعجمي وهو قاعد في الدكان ووضعه بين يديه فقال له: يا ولدي ما تريد أن تصنع بهذا الكون؟ أجاب: «ندخله في النار ونفعله سبائك ذهب. فضحك الأعجمي وقال: يا ولدي هل أنت مجنون حتى تنزل السوق بسبيكتين في يوم واحد. ما تعلم أن الناس ينكرون علينا وتروح علينا. ولكن يا ولدي إذا علمتك هذه الصنعة لا تعملها في السنة إلا مرة واحدة فهي تكفيك من السنة إلى السنة. قال: صدقت يا سيدي. ثم قعد في الدكان وركب في البودقة ورمى الفحم على النار فقال له الأعجمي: يا ولدي، ماذا تريد؟ أجاب: علمني هذه الصنعة. فضحك الأعجمي وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أنت يا ابني قليل العقل ما تصلح لهذه الصنعة قط. هل أحد في عمره يتعلم هذه الصنعة على قارعة الطريق أو في الأسواق، فإن اشتغلنا بها في هذا المكان يقول الناس علينا إن هؤلاء يصنعون الكيمياء فتسمع بنا الحكام وتروح أرواحنا. إذا أردت يا ولدي أن تتعلّم فاذهب معي إلى بيتي.

قام حسن وأغلق الدكان وتوجه مع الأعجمي. بينما هو في الطريق تذكر قول أمه وحسب في نفسه ألف حساب فوقف وأطرق برأسه إلى الأرض فالتفت الأعجمي فرآه واقفاً، فضحك وقال: هل أنت مجنون؟ كيف أضمر لك في قلبي الخير وأنت تحسب أني أضرك؟ إن كنت خائفاً من ذهابك معي إلى بيتي فأنا أروح معك إلى بيتك وأعلمك هناك. فقال له حسن: نعم. فقال له: امش أمامي. سار حسن وسار الأعجمي خلفه إلى أن وصل الأعجمي إلى منزله فدخل حسن إلى داره فوجد والدته فأعلمها بحضور الأعجمي معه وهو واقف على الباب ففرشت لهما البيت ورتبته.

جلس حسن معه قليلاً، ثم تركه وخرج إلى السوق وجاء بأكل وضعه بين يديه، وقال له: كُل يا سيدي لأجل أن يصير بيننا خبز وملح، والله تعالى ينتقم ممن يخون الخبز والملح. فقال له: صدقت يا ولدي. ثم تبسم وتقدم فأكل مع حسن حتى اكتفياً، وقال له: ما بقى يا ولدي بيننا تكليف، فهات لنا شيئاً من الحلوى. خرج حسن إلى السوق وأحضر الحلوى وقدمها له، فأكل منها حتى اكتفى، ثم قال له: جزاك الله خيراً يا ولدي، مثلك مَن يصاحبه الناس ويظهرونه على أسرارهم، ويعلمونه ما ينفعه، والآن هيا أحضر العِدَّة.

فرح حسن بهذا، وخرج كالمُهر، حتى وصل إلى الدكان فأخذ العدة منه ورجع بها إليه ووضعها بين يديه، فأخرج العجمي قرطاساً من الورق وقال له: وحق الخبز والملح لولا أنك أعز من ولدي ما أطلعتك على سر هذه الصنعة، وما بقى معي شيء من هذا الأكسير إلا هذا القرطاس. ولكن تأمل حين أركب العقاقير، واعلم يا ولدي أن كل عشرة أرطال من النحاس يوضع عليها نصف درهم من هذا الذي في الورقة، فتصير العشرة أرطال ذهباً خالصاً، وفي الورقة الآن ثلاث أوقيات بالوزن المصري، وبعدما يفرغ ما فيها أعمل لك غيره.

أخذ حسن الورقة ونظر فيها فوجد شيئاً أصفر أنعم من الأول، فقال: يا سيدي ما اسم هذا وأين يوجد؟ ضحك الأعجمي وقال له: لا تسأل عن شيء، واعمل وأنت ساكت. ثم أخذ طاسة من النحاس وقطعها، وألقاها في البودقة ورمى عليها قليلاً مما في الورقة، فصارت سبيكة من الذهب الخالص. لما رأى حسن ذلك، فرح فرحاً شديداً، وشغل بفحص تلك السبيكة، وفيما هو كذلك أخرج العجمي ورقة صغيرة وفتحها خفية ووضع قليلاً مما فيها في قطعة الحلوى، ثم قال لحسن: أنت بقيت ولدي، وصرت عندي أعز من روحي ومالي، وليس لي أولاد غير بنت واحدة كالقمر، وسأزوجك بها. فقال حسن: أنا عبدك وعبدها. فقال العجمي: بل أنا عبدك ومالي بركة إلا أنتما، ثم ناوله قطعة الحلوى، فأخذها وقبل يده ووضعها في فمه وهو لا يعلم ما في الغيب. فما كاد يبتلعها حتى غاب عن الدنيا، فلما رآه الأعجمي غشي عليه، فرح فرحاً شديداً وقال: «وقعت يا كلب العرب».

... وهنا أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد