رحلة ترامب كارثة بالنسبة إلى العلاقات الأميركية - الأوروبية
ارتكزت السياسات الألمانية منذ الحرب على التزامَين أساسيين: الليبرالية في الداخل والتعاون الأطلسي في الخارج. وتُعتبر الأقلية التي تشكك في الالتزام الأول ضئيلة، إلا أن أقلية أكبر بكثير تشكك في الثاني، وعلى غرار الأميركيين، ما زال الألمان يتذكرون الماضي النازي، فلم ينسَوا أكثر من الأميركيين أن قاذفات القنابل البريطانية والأميركية حرقت المدن الألمانية وسوتها أرضاً، وحظوا اليوم بصوت يتيح لهم التحدث عن تاريخهم الخاص والتعبير عن بعدهم العاطفي عن شركاء ما عادوا بحاجة إليهم كما في الماضي. أخبرني جنرال شبه ثمل في سلاح الجو الألماني خلال مؤتمر لحلف شمال الأطلسي في تالين مشدداً: "لن نكون عائلة مطلقاً. الأميركيون، والإنكليز، والكنديون، والأستراليون، والنيوزيلنديون يشكّلون كلهم عائلة، إلا أننا لن نكون جزءاً منها مطلقاً"، ويتجلى هذا الشعور في قرارات استراتيجية مثل تردد ألمانيا في الانضمام إلى اتفاق "الأعين الخمس" لتشاطر المعلومات.يعزز ترامب العناصر المشككة في الولايات المتحدة في ألمانيا.
قلب انتخاب ترامب رئيساً الافتراضات السياسية الألمانية عن الولايات المتحدة رأساً على عقب في زمن يبدو فيه الألمان مستعدين أساساً لقلب هذه الافتراضات رأساً على عقب، لكن المثير للقلق أن هذا التباعد الأميركي-الألماني يتزامن مع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، هذا الخروج الذي سيُضعف نفوذ لندن في وجه برلين. ستُضطر بريطانيا إلى إعادة التفاوض بشأن دخولها سوق الاتحاد الأوروبي، وستتمتع ألمانيا بالقدرة على القبول أو الرفض، كذلك ستخفق رؤية ما بعد عام 1945 عن انضمام ألمانيا الآمنة والليبرالية إلى شراكة لصيقة مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. في المقابل سنرى دولة ألمانية أكثر بعداً عن حلفائها الناطقين بالإنكليزية، وأكثر هشاشة أمام روسيا العدائية، وأكثر انقساماً وتأثراً بالتطرف عقب استقبال ميركل نحو مليونَي مهاجر من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. تشير استطلاعات الرأي إلى أن ثقة الألمان بالولايات المتحدة، التي سبق أن تراجعت في عهد أوباما، انهارت مع ترامب إلى مستويات أعلى بقليل مما نشهده في روسيا خلال عهد بوتين، ومع مواجهة ميركل انتخابات في الخريف وبعد تأكدها من أنها تتمتع بحليف محبب مع فوز ماكرون في فرنسا، أعلنت المستشارة الألمانية رسمياً أنها ستقود الألمان الذين يبتعدون عن التحالف الأميركي، ففي خطاب أدلت به أمام ألفَي شخص يوم الأحد الماضي، أشارت إلى أن أوروبا لا تستطيع الاعتماد خلال هذه المرحلة على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وأضافت: "انتهى الزمن الذي كنا نستطيع فيه الاعتماد بالكامل على الآخرين. هذا ما اختبرته في الأيام القليلة الماضية، علينا نحن الأوروبيين أن نحدد مصيرنا بأنفسنا". لاحظوا أنها ذكرت "الأوروبيين" لا الألمان، كذلك تنبهوا لأنها لم تستبعد بالكامل فكرة أن تعتمد أوروبا على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في المستقبل: لم يُقفل الباب، إلا أن النظام الماضي قد ولّى.إذا أضفنا هذه الكلمات إلى رفض ترامب العنيد تأييد المادة الخامسة الشهيرة في حلف شمال الأطلسي، التي تضمن الدفاع المتبادل، في قمة هذا الحلف، يصعب علينا تخيّل رسالة قد تحملها رحلة ترامب الأولى وقد تكون أكثر ملاءمة لبوتين، حتى لو كتب هذا الأخير نصها بنفسه.لذلك نشهد اليوم جهوداً لتحوير الكلمات وجعل هذه الرحلة تبدو أقل من كارثة كبيرة بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة في أوروبا. على سبيل المثال أصر مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر على أن الرئيس ترامب دعم بالفعل المادة الخامسة. ولكن إذا قارنا كلمات ترامب بخطابات مَن سبقوه من رؤساء أميركيين، نرى بكل وضوح أن هذا غير صحيح. على نحو مماثل أفاد الرئيس الجمهوري للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بوب كوركر رسمياً أنه راضٍ تماماً عن الرحلة، ولكن إن كان كذلك فهذا يعكس سوء تقدير واضحاً من قبل السيناتور كروكر، لكنني أفضل أن أعتقد أن هذا التصريح يشير إلى عدم صراحة تامة من قبله.إليك الوقائع: يُلحق ترامب الضرر بأعمق مصالح الولايات المتحدة في مجال السياسة الخارجية وأكثرها توافقاً، ويقوم بذلك فيما يواجه أناس مرتبطون بحملته تهمة التآمر مع وكالات التجسس التابعة لفلاديمير بوتين بغية إيصاله إلى سدة الرئاسة. إذاً، الوضع بشع وخطير على حد سواء، وإذا كان لا بد من تصحيحه، فعلى الأميركيين كافةً، وخصوصاً الجمهوريين البارزين أمثال بوب كروكر، تسمية الأمور بأسمائها.* «ديفيد فروم»