يوافق الأول من يوليو القادم الذكرى العشرين لعودة هونغ كونغ إلى الصين، بعد ما يزيد على قرن من الحكم الاستعماري البريطاني، وتحل هذه الذكرى في وقت يتهافت فيه قادة الصين على الترويج لدور هونغ كونغ الفريد في دفع حركة التنمية الاقتصادية بالدولة.قبل شهرين أفصح رئيس الوزراء لي كه تشيانغ عن عزم الصين تعميق التعاون الاقتصادي عبر منطقة خليج جوانغدونغ-هونغ كونغ-ماكاو، التي أطلق عليها محللو هونغ كونغ اسم دلتا نهر اللؤلؤ، بُغية تعزيز دورها كمحرك رئيس للتنمية المستدامة، ويشمل هذا الإقليم مدن جوانغدونغ التسع الرئيسة- ومن بينها قوانتشو، وفوشان، وشنغن- إضافة إلى هونغ كونغ وماكاو، وقد وصل عدد سكان دلتا نهر اللؤلؤ في العام الماضي إلى 68 مليون نَسَمة، في حين بلغ ناتجها المحلي الإجمالي 3.1 تريليونات دولار.
وتمثل دلتا نهر اللؤلؤ الركن الجنوبي لمجموعات النمو الساحلية الثلاث في الصين، أما في الوسط فتوجد دلتا نهر يانجتسي، التي تضم مدينة شنغهاي، حيث يبلغ عدد سكان هذه الدلتا 130 مليونا ويصل ناتجها المحلي الإجمالي إلى تريليونيّ دولار، وإلى الشمال يوجد محور بكين/تيانغين/بوهاي الذي يغطي عشر مدن رئيسة، ويبلغ عدد سكانه 100 مليون شخص ويسهم بناتج محلي إجمالي قدره 3.1 تريليونات دولار. وبالجملة نجد أن سكان هذه المجموعات الثلاث يمثلون 21% من سكان الصين، وأن إسهامها في الناتج المحلي الإجمالي للدولة يقل بقليل عن 40%.ورغم أنها الأقل من حيث عدد السكان بين المجموعات الثلاث، تعد دلتا نهر اللؤلؤ الأعلى من حيث دخل الفرد، كما أنها تشكل رابطا مهما بين الصين وسلاسل التوريد العالمية، إذ تكتسب أفضلية واضحة بفضل مزايا التجارة الحرة، والضرائب المنخفضة، والطابع العالمي الذي يطغى على مدينتي هونغ كونغ وماكاو، فكل منهما تمثل "إقليما إداريا ذا طابع خاص" وفقا للمبدأ الصيني: "دولة واحدة ونظامان". هناك مدينة أخرى عظيمة الأهمية والقيمة وهي شنغن، تلك "المنطقة الاقتصادية ذات الطابع الخاص" التي تمتاز بتجددها المستمر، والتي تتباهى بامتلاكها سوقا حيوية لرأس المال، ودأبها على تجريب خلق وظائف وفقا لاحتياجات القطاع الخاص، وتكاملها مع سلاسل التوريد العالمية.هذه التنافسية التي تحظى بها دلتا نهر اللؤلؤ ليست وليدة المصادفة، فلقد استخدم دنغ شياو بنغ الإقليم كمختبر للسياسات العامة، حيث سمح بوجود نظم قانونية ومؤسساتية مختلفة في وقت واحد، في حين كانت الصين قد توصلت إلى كيفية للتعاطي مع العولمة. وقد حقق النظام نجاحا واضحا، لكنه يعاني تناقضا جوهريا يتعلق بمفهوم عالم الاقتصاد رونالد كوس لتكاليف المعاملات.بفضل ما تحظى به الصين من تدرج جغرافي وسكاني واقتصادي، يسهم "الإصلاح والانفتاح"- بحسب عبارة دنغ- وكذلك التقدم التكنولوجي في تقليل تكاليف المعاملات بصورة طبيعية، الأمر الذي يساعد في تحسين قدرة الأسواق على تخصيص الموارد، وتحفز هذه العملية غالبا النزوع للتخصص، في ظل تركيز الاقتصادات الإقليمية أو المحلية على مزاياها التنافسية لتعظيم مكاسبها من انخفاض تكاليف المعاملات.ويمكن رؤية مثل هذا التخصص بوضوح في دلتا نهر اللؤلؤ، فها هي هونغ كونغ تتحول إلى مركز رئيس للتمويل والخدمات العالمية، في حين تؤسس ماكاو نفسها كمركز عالمي للقمار والترفيه. في الوقت ذاته تركز شنغن حاليا على الابتكار التكنولوجي، فيما صارت قوانتشو مركزا للتجارة العالمية، أما فوشان ودونغ قوان فأصبحتا قاعدتين كبريَيْن للتصنيع. ورغم الهيكل الاقتصادي غير المتوازن في ظاهره لكل مدينة على حدة، فإن مجموعة المدن ككل تتمتع بتوازن جيد وتنافسية عالية.لكن- وهنا يكمن التناقض- يمكن أن ترفع هذه الأرقام الهائلة من الصفقات مستوى المخاطر المالية والاجتماعية والأمنية، الأمر الذي قد يشعل تقلبا يشمل المنظومة بأكملها، ويسبب عدوى يسري خطرها في كل الأقاليم والقطاعات. ولتقليل هذه المخاطر، يجب على الحكومات والهيئات التنظيمية التدخل، حتى لو بفرض قيود على الأسواق التي ترفع تكاليف المعاملات بشكل مصطنع. وسيحسن قادة الصين صنعا إذا تذكروا ذلك، وهم يحاولون الاستفادة من نقاط القوة في الأنظمة المتنوعة لبناء اقتصاد أكثر انفتاحا وحداثة وأسرع نموا.لا ريب أن صانعي السياسات في الصين يدركون قيمة مجموعات المدن المتكاملة وأهميتها في دفع حركة التنمية الاقتصادية وتخفيف ضغوط التحضر السريع (الهجرة من الريف إلى الحضر). فقد تجاوزت نسبة سكان الحضر بين الصينيين 50% في عام 2011، وقد ينتقل 300 مليون شخص آخرين للعيش في المناطق الحضرية خلال السنوات العشرين القادمة. وفي مثل هذه الظروف يمكن أن تكون مجموعات المدن المتكاملة شيئا أساسيا ولازما للتجديد وخلق الوظائف، خصوصاً في قطاع الخدمات، مع الحد من إهدار الموارد، وتحاشي إحداث المزيد من التدهور البيئي، والتخفيف من حدة الاكتظاظ السكاني في المناطق الحضرية.لقد تعاونت الصين بالفعل مع سنغافورة ومدن أخرى كبرى للارتقاء بالتصميم الحضري، وتحسين إدارة المياه وتعزيز الاستدامة البيئية، إضافة إلى اتخاذ خطوات للاستفادة من إمكانات الاقتصاد التشاركي، كما أعلن الرئيس شي جين بينغ في أبريل الفائت بناء منطقة شيونغان الجديدة التي تقع على بعد 50 ميلا جنوب بكين، حيث ستُستَخدم كمكان لتجربة السياسات التي تمكن الشركات الناشئة المبتكِرة من الحلول محل الصناعات القديمة المهجورة. فالهدف هنا التشجيع على خلق وظائف في الصناعات المستدامة، مع تخفيف الاكتظاظ السكاني الحضري في العاصمة في الوقت ذاته.أما هونغ كونغ، فيراها قادة الصين مصدرا لبنية برمجية عظيمة القيمة للتنمية الاقتصادية، بما فيها من سلطة قضائية مستقلة، ونظام صارم وقوي لمكافحة الفساد، وعملة مستقرة، وأسواق عالمية المستوى لرؤوس الأموال. كما يعد نظام التعليم عالي الجودة ذو التوجه الدولي، ونظام إدارة المدينة المتطور والفعال، من بين الأصول المهمة التي تمتلكها هونغ كونغ.وتتركز أهمية هذه البينة التي تتمتع بها هونغ كونغ في تكملة مسعى الصين الأكبر الرامي لبناء "الكيان المادي" للتنمية، ممثلا في مبادرة حزام واحد- طريق واحد، التي تتطلب استثمارات هائلة في البنية التحتية التي تربط الصين ببقية العالم. ويجري حاليا بالفعل وضع برامج لربط بورصات هونغ كونغ وشنغهاي وشنغن ولندن لدعم قدرة مجموعات المدن الصينية المتكاملة على الوفاء بمتطلبات مبادرة حزام واحد- طريق واحد من التمويل الخارجي.لكن يجب فعل المزيد لمساعدة هونغ كونغ- بل دلتا نهر اللؤلؤ، على نطاق أكبر- لتحقيق الاستفادة القصوى من إمكاناتها، فهناك مثلا قطاع الخدمات العالميّ المستوى في هونغ كونغ الذي يعمل حاليا بأقل من طاقته بسبب المعوقات المادية. ولو توافرت بنية تحتية أفضل للانتقال عبر الحدود، وبرامج أكثر مرونة لتقديم الخدمات الطبية والمالية والاجتماعية، لربما اختار المواطنون من كبار السن التقاعد خارج حدود هونغ كونغ، مما سيخلق مساحة للعمالة الأصغر سنا.وفي الوقت الذي يركز فيه كثير من المراقبين على تخمة الائتمان في الصين، تشجع السلطات في هدوء تطوير تكتلات المدن الديناميكية، لكن حماية مثل هذا التقدم والحفاظ عليه يستوجبان من صناع السياسات في الصين العمل على تقليل المخاطر المرتبطة بالتحضر السريع والتخصص المتزايد، وإلا ربما انتهت المساعي والاتجاهات التي من شأنها تقديم منفعة عظيمة للصين إلى تقويض الرخاء والاستقرار الاجتماعي.* أندرو شنغ زميل متميز لدى معهد آسيا العالمي في جامعة هونغ كونغ، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام، وشياو غنغ رئيس مؤسسة هونغ كونغ للتمويل الدولي، وأستاذ في جامعة هونغ كونغ.«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
بشائر دلتا نهر اللؤلؤ في الصين
31-05-2017