لما كانت الليلة السادسة والثلاثون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأعجمي قام بعد ذلك فشدّ وسطه وكتّف حسناً، ورَبط رجليه مع يديه، ثم أخذ صندوقاً وجده هناك ومدده فيه، ثم أغلقه عليه، وأفرغ صندوقاً آخر مما فيه، وملأه بجميع ما عند حسن من سبائك الذهب التي صنعها له، ثم خرج إلى السوق فأحضر حمّالاً نقل الصندوقين إلى سفينة كانت راسية على الشاطئ، مهيّأة للسفر. ما إن وصل الأعجمي بالصندوقين إليها، حتى صرخ في بحارتها: هيا بنا. انقضت الحاجة وبلغنا المراد. قلعوا المراسي وحلوا القلاع، وسارت السفينة بريح طيبة.

وكانت أم حسن انتظرته إلى العشاء، فلم تسمع له صوتاً، وتوجَّهت إلى حيث كان جالساً مع الأعجمي، فوجدت الغرفة خالية ليس فيها أحد، ولم تجد الصناديق ولا المال، فعرفت أن ولدها فُقد ونفذ فيه القضاء، ولطمت وجهها وشقت أثوابها وصاحت وولولت، ثم أنشدت هذه الأبيات:

Ad

لقد قل صبري ثم زاد تململي

وزاد نحيبي بعدكم وتعللــــي

ولا صبر لي والله بعد فراقكم

وكيف اصطباري بعد فرقة مأملي

رحلت فأوحشت الديار وأهلها 

وكدرت من صفوي مشارب منهلي

وكنت معيني في الشدائد كلها

وعزي وجاهي في الورى وتوسلي

فلا كان يوم كنت فيه مباعداً

عن العين إلا أن أراك تعود لي

ثم صارت الأم تبكي وتنوح إلى الصباح، فدخل عليها الجيران وسألوها عما جرى لها، فأخبرتهم بما حصل لابنها مع الأعجمي واعتقدت أنها لن تراه بعد ذلك أبداً، فجعلت تدور في البيت وتبكي. وبينما هي على هذه الحال إذ رأت سطرين مكتوبين على الحائط، فأحضرت فقيهاً قرأهما فإذا فيهما:

سرى طيف ليلي عندما غلب الكرى 

سحيراً وصحبي في الفلاة رقود

فلما انتبهنا للخيال الذي سرى

إذا الدار قفر والمزار بعيد

لما سمعت هذه الأبيات صاحت وقالت: نعم يا ولدي إن الدار قفر والمزار بعيد، ثم تركها الجيران بعدما دعوا لها بالصبر وجمع الشمل قريباً. ولم تزل أم حسن تبكي أناء الليل وأطراف النهار، وبنت في وسط البيت قبراً، وكتبت عليه اسم حسن وتاريخ فقده، وصارت لا تفارق ذلك القبر.

وأما ما كان من أمر ولدها، فإن الأعجمي الذي خطفه كان مجوسياً يبغض المسلمين كثيراً، وكلما قدر على أحد منهم يهلكه، وهو خبيث لئيم كما قال الشاعر:

هو الكلب وابن الكلب والكلب جده

ولا خير في كلب تناسل من كلــــب

وكان اسم ذلك الملعون «بهرام المجوسي»، وله في كل سنة واحد من المسلمين يأخذه ويذبحه على باب كنز. لما تمّت حيلته مع حسن البصري الصائغ، ومضى به في البحر من أول النهار إلى الليل، رست السفينة على البر إلى الصباح، فلما طلعت الشمس أمر الأعجمي «عبيده» وغلمانه بأن يحضروا له الصندوق الذي فيه حسن، ثم أخرجه منه ونشَّقه الخل، ونفخ في أنفه ذروراً، فعطس وتقيأ البنج، وفتح عينيه ونظر يميناً وشمالاً، فوجد نفسه في سفينة في البحر سائرة به، فعلم أنه وقع في فخ نصبه له المجوسي الملعون، وتذكر أن أمه طالما حذرته، فقال جملة لا يخجل قائلها وهي: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم ألطف بي في قضائك، وصبرني على بلائك يا رب العالمين». التفت بعدذلك إلى الأعجمي وكلّمه بكلام رقيق وقال له: يا والدي ما هذه الفعال؟ وأين «الخبز والملح» واليمين التي حلفتها لي؟ فنظر إليه وقال له: هل مثلي يعرف «خبزاً وملحاً؟» قتلت مثلك ألف صبي إلا صبياً، وأنت تمام الألف! وهنا أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

انتفاضة البحَّارة

لما كانت الليلة السابعة والثلاثون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً سكت لما سمع كلام المجوسي، وعلم أن سهم القضاء قد نفذ فيه، ثم أمر الملعون بحل وثاقه، وسقاه قليلاً من الماء، وصار يضحك ويقول له: وحق النار والنور، والظل والحرور، ما كنت أظن أنك تقع في شبكتي، ولكن النار قوتني عليك وأعانتني على أسرك حتى أقضي حاجتي وأرجع فأجعلك قرباناً لها كي ترضى عني.

قال له حسن: إنك خنت «الخبز والملح». فرفع المجوسي يده وضربه، فوقع على الأرض، وجرت دموعه على خده، ثم أمر أن يوقدوا له ناراً، فقال له حسن: ما تفعل بها؟ فقال: هذه النار صاحبة النور، وهي التي أعبدها فإن كنت تعبدها مثلي فأنا أعطيك نصف مالي وأزوِّجك ابنتي. فصاح حسن قائلاً له: ويلك! إنما أنت مجوسي كافر، تعبد النار من دون الملك الجبار خالق الليل والنهار. فغضب المجوسي وقال له: أما توافقني يا كلب العرب وتدخل في ديني؟ فقال له حسن: كلا! ثم سجد المجوسي للنار، وأمر غلمانه أن يرموا الصائغ على وجهه، وصار يضربه بسوط مضفور من جلد، حتى تمزق جلده، وصار يستغيث فلا يُغاث، ويستجير فلا يجيره أحد، فجرت دموعه على خديه كالأمطار، وأنشد هذين البيتين:

صبراً لحكمك يا إلهي في القضا

أنا صابر إنْ كان في هذا رضا

جاروا علينا واعتدوا وتحكموا

فعساكَ بالإحسانِ تغفرُ ما مَضى

أمر المجوسي «العبيد» أن يحضروا لحسن شيئاً من المأكول والمشروب، فأحضروه له، لكنه لم يرض أن يأكل أو يشرب، وصار المجوسي يعذبه ليلاً ونهاراً مسافة الطريق، وهو صابر يتضرع إلى الله عز وجل. ولم يزالوا سائرين في البحر مدة ثلاثة أشهر، ثم أرسل الله تعالى ريحاً شديدة فهاج البحر واضطربت السفينة، فقال البحارة: هذا والله كله ذنب الشاب الذي صبر ثلاثة أشهر على تعذيب هذا المجوسي، وهذا ما يحل من الله تعالى.

ثم قاموا على غلمان المجوسي فقتلوهم، فلما رآهم قتلوا غلمانه أيقن بالهلاك وخاف على نفسه، وحلّ وثاق حسن ونزع ما كان عليه من الثياب الرثة، وألبسه غيرها، ووعده بأن يعلمه الصنعة ويرده إلى بلده، وقال له: يا ولدي لا تؤاخذني، فأنا ما فعلت معك هذه الفعال إلا لأجل أن أنظر صبرك، وأنت تعلم أن الأمر كله بيد الله. فعفا عنه حسن، وشكر البحارة ودعا لهم بالخير.

بعد ذلك، انكشفت الظلمة وطابت الريح، فقال حسن للمجوسي: إلى أين نتوجه؟ فأجاب: إلى جبل السحاب الذي فيه الأكسير الذي نعمله كيمياء. وحلف له بالنار والنور ألا خوف عليه. فطاب قلب حسن وفرح، وصار يأكل ويشرب معه، ولم يزالا مسافرين مدة ثلاثة أشهر أخرى، إلى أن وصلا إلى شاطئ كله حصى أبيض وأصفر وأسود وأزرق وغير ذلك من جميع الألوان، فنهض العجمي وقال لحسن: وصلنا إلى مطلوبنا ومرادنا. ثم أخذه إلى البر، وأوصى البحارة بانتظارهما.

وما زال حسن سائراً مع المجوسي إلى أن بعدا عن المركب وغابا عن الأعين، ثم قعد المجوسي وأخرج من جيبه طبلاً نحاسياً، وزخمة من حرير منقوشة بالذهب وعليها طلاسم، وضرب الطبل فظهرت غبرة عظيمة خاف منها حسن وتغير لونه، فنظر إليه المجوسي وقال له: يا ولدي وحق النور ما بقى عليك خوف مني، ولولا أن حاجتي ما تُقضَى إلا على اسمك ما كنت أخرجتك من السفينة.

«الخبز والملح»

لما كانت الليلة الثامنة والثلاثون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن المجوسي قال لحسن: إن هذه الغبرة شيء نركبه فيعيننا على قطع هذه البرية، ويسهل علينا مشقتها. وما أتم كلامه حتى انكشفت الغبرة عن ثلاث نجائب (نَجَائِبُ الإبل: خِيارُها)، فركب الأعجمي واحدة، وركب حسن واحدة، وحملا زادهما على الثالثة، وسارا سبعة أيام إلى أن انتهيا إلى أرض واسعة، نزلا فيها، عند قبة معقودة على أربعة أعمدة من الذهب الأحمر، ثم دخلا تحت القبة وأكلا وشربا واستراحا.

ولاحت من حسن التفاتة إلى يمينه، فرأى قصراً عالياً، وسأل المجوسي: ما هذا يا عم؟ فردّ: هذا قصر عدوي الذي أبغي هلاكه، وقد وقعت لي معه حكاية ليس هذا وقت إخبارك لها. ثم دق الطبل فأقبلت النجائب الثلاث، وركبا مستأنفين السفر سبعة أيام. لما كان اليوم الثامن، قال المجوسي لحسن: ما الذي تراه أمامك الآن؟ فقال حسن: أرى سحاباً وغماماً بين المشرق والمغرب. فقال له المجوسي: ما هذا سحاب ولا غمام، وإنما هو جبل شاهق لا يبلغه السحاب لفرط علوه وارتفاعه، وهذا الجبل هو مقصودي، وفوقه حاجتي التي جئت بك معي كي تُقضى على يدك. عند ذلك يئس حسن من الحياة ثم قال له: بحق معبودك وما تعتقد من دينك أي شيء هذه الحاجة التي جئت بي لأجلها؟ فقال له: إن صنعة الكيمياء لا تصلح إلا بحشيش ينبت في المحل الذي يمر به السحاب، ويتقطع عليه تحت قمة هذا الجبل، فإذا حصلنا على هذا الحشيش، فسترى أي شيء هذه الصنعة. سكت حسن من خوفه، ويئس من الحياة، وبكى لفراق أهله ووطنه، وندم على مخالفته أمه، وأنشد هذين البيتين:

تأمَّل صُنع ربّك كيف تأتي

لك السراء في فرجٍ قريب

ولا تيأس إذا ما نلت خطباً

فكم في الخطب من لطفٍ عجيب

ولم يزالا سائرين إلى أن وصلا إلى ذلك الجبل ووقفا تحته، فنظر حسن إلى قمته فرأى قصراً عجيباً لم ير مثله، وعلم من المجوسي أنه مسكن الجان والغيلان والشياطين، ثم ترجل المجوسي عن دابته، فترجل حسن مثله، وبدا عليه الخوف، فقال المجوسي: لا تخف من شيء مما تراه عند دخولك إلى هذا القصر، ولكن إياك أن تخونني، أو تخفي أي شيء مما تحضره منه، فقال له: سمعاً وطاعة.

فتح المجوسي جراباً وأخرج منه طاحوناً طحن فيه مقداراً من القمح، ثم عجن منه ثلاثة أقراص، وأوقد النار وخبزها، ثم أخرج الطبل النحاس والزخمة المنقوشة، ودق الطبل حتى حضرت النجائب، فاختار نجيبة منها وذبحها وسلخها، ثم التفت إلى حسن وقال له: اسمع يا ولدي ما أوصيك به، أنني سأدخلك في هذا الجلد وأخيطه عليك، ثم أطرحك على الأرض حتى يأتي طائر الرخ فيحملك ويطير بك إلى أعلى الجبل، فإذا شعرت أنت بوصولك إلى هناك، فشق الجلد بهذه السكين وأخرج منه، وحينئذ يهرب الطائر خائفاً، ثم تناديني من هناك فأخبرك بما سوف تفعله.

ثم زوَّده بالأقراص الثلاثة وبركوة فيها ماء، وأعطاه السكين ليشق بها الجلد، ثم خاطه عليه، ثم بعُد عنه حتى جاء الطائر وحمله إلى أعلى الجبل ووضعه هناك. ولما شعر حسن بأن الطائر وضعه على الجبل، شق الجلد وخرج منه، ثم نادى المجوسي، فلما سمع صوته رقص من شدة الفرح وقال له: امض إلى خلفك حتى ترى رمماً كثيرة وعندها حَطب كثير، فخذ منه ست حزم وارمها إليَّ، فإنها هي التي تحتاج إليها. وما كاد حسن يرمي إليه تلك الحزم، حتى ضحك الملعون وقال له: انقضت الحاجة التي أردتها منك، وإن شئت فابق عندك، أو ألق بنفسك على الأرض حتى تهلك. ثم ركب نجيبته وحمل على الأخرى متاعه، ومضى بهما حتى غاب عن نظره.

وأخذ حسن ينوح على نفسه، وأنشد هذه الأبيات:

إذا أراد الله أمراً بامرئ

وكان ذا عقلٍ وسَمع وبَصر

أصم أذنيه وأعمى قلبه

وسل منه عقله ســـل الشعر

حتى إذا أنفذ فيه حكمه

رد إليه عقله ليعتبر

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد