لماذا اختار جمال عبد الناصر أنور السادات نائبا لرئيس الجمهورية؟ ثمة إجابات كثيرة جداً قيلت حول هذا السؤال، قال البعض (يقصد محمد حسنين هيكل) في تفسيره قرار الرئيس جمال عبد الناصر بتعيين السادات نائباً له، قبل سفره إلى المغرب لحضور اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي، وفيها أن تقارير المخابرات المصرية من المغرب أكدت وجود مؤامرة لاغتيال عبد الناصر، يدبرها الموساد بالتعاون مع وزير الدفاع والداخلية المغربي الجنرال محمد أوفقير، وبناء على هذه التقارير، عيّن الرئيس السادات نائباً له تحسباً لأية احتمالات لحدوث مؤامرة اغتياله. وبحسب هذه الرواية، فإن وجهة نظر الرئيس في ذلك التعيين تقوم على أن السادات يصلح رئيساً مؤقتاً لفترة انتقالية، إلى أن تنتظم أمور الدولة.والصحيح أن حسن التهامي الذي كان أميناً عاماً في رئاسة الجمهورية آنذاك أرسل برقية من الدار البيضاء يقول فيها إن الجنرال أوفقير كان يرتب لمؤامرة تستهدف اغتيال عبد الناصر، وكان مدير المباحث المصرية اللواء حسن طلعت هناك في المغرب، وكان عبد المجيد فريد أمين رئاسة الجمهورية هناك أيضاً، وسألنا وبحثنا وتقصينا ودققنا حول هذه النقطة، ولكن تبين لنا أن لا وجود لأي ظل للمؤامرة التي تحدثت عنها البرقية.
وقال البعض: المبادرة إلى تعيين السادات نائباً لرئيس الجمهورية في هذا التوقيت جاءت في أعقاب حديث طويل بين حسين الشافعي وبين الأخ سامي شرف وزير شؤون رئاسة الجمهورية، حول علاقة عبد الناصر بحسين الشافعي، ونقل هذا الحديث إلى الرئيس، ولا أستطيع أن أعرف إن كان له تأثير في المسارعة إلى تعيين السادات أم لا؟كذلك قال البعض الآخر إن خلافات نشأت بين أنور السادات وحسين الشافعي خلال أحد أسفار عبد الناصر هي السبب. لكن المؤكد لدي أن الرئيس لم يكن يعين أحداً أثناء سفره إلى الخارج، وكان يترك «لجنة العمل» التي تتكون من عدد محدود من قادة الدولة تسير أجهزة الدولة على المنوال نفسه الذي تسير عليه الأمور في أثناء وجوده، وعلى الخط ذاته الذي يرسمه في سياسته، وكان دائم القول لأنور السادات بطريقة ظريفة وضاحكة:- يا أنور سيب الهرم وتعالَ نام في حضن شعراوي أحسن ما حد يطلع عليك في الهرم ويأخذك.وكان السادات يترك منزله كي يبيت في قصر عبد المنعم، أو في قصر الطاهرة، أو في قصر العروبة قريباً من أماكن تجمعنا في مصر الجديدة. أقولها مخلصاً إنه لا يمكن لأحد أن يجزم تماماً بإجابة حول سؤال: لماذا اختار جمال عبد الناصر أنور السادات نائبا لرئيس الجمهورية؟
الرئيس المؤقت
حين غاب جمال عبد الناصر، وجدنا أنفسنا أمام الصعاب كلها، وفي مواجهة المسؤوليات. وبعد الجنازة أصبح أنور السادات رئيس الجمهورية المؤقت، والسؤال الذي ظل كثيرون يوجهونه إلينا في صورة اتهام؟ لماذا سارعنا إلى تنصيبه رئيساً رغم عدم حب الناس له، ورغم أن أمناء الاتحاد الاشتراكي، وأعضاء لجنته المركزية، وكثيرين من قياداته، وقواعده، كانوا يرفضون ترشيحه، ولم تكن سمعة أنور السادات فوق مستوى الشبهات.والاتهام الموجه ضدنا حتى اليوم أننا كنا نفضل الرئيس الضعيف فاخترنا شخصاً ضعيفاً يمكننا السيطرة عليه، والحكم من وراء ستار! والحقيقة أن ذلك كله لم يكن صحيحاً على الإطلاق، بل ثمة عوامل عدة رسمت وحددت لنا طريقة التفكير في الموضوع برمته.كان أنور السادات، كما قلت سابقاً، نائب رئيس الجمهورية وقت حدوث الوفاة، وكانت المادة 110 من الدستور المؤقت تنصّ على أنه في حالة عجز أو وفاة أو استقالة الرئيس يتولى النائب الأول رئاسة الجمهورية مؤقتاً، لذلك كان من المحتم أن يتولى السادات يوم 28 سبتمبر 1970 رئاسة الجمهورية بالنيابة، وأن يصبح الرئيس المؤقت للجمهورية.ولأننا كنا نريد أن نعلن للعالم أجمع أن 18 عاماً من عمر الثورة بقيادة عبد الناصر لم تكن عبثاً، وأن الرئيس وضع نظاماً قائماً على مؤسسات، وأن الأخيرة عليها أن تؤدي دورها وتثبت وجودها بعد وفاة القائد، وكان أول أدوارها المرسومة، وأهمها في تلك اللحظة العصيبة من عمر البلد، أن تنتقل السلطة عبرها سلمياً ومن دون صراعات.والنقطة الثانية والمهمة بعد ذلك كانت المعركة، وكانت قواتنا المسلحة تجهزت لخوض معركة التحرير، وكان الرئيس عبد الناصر يعمل على مدار اليوم لإزالة آثار عدوان عام 1967 واستعادة الأرض العربية المحتلة، وكان هذا هو أول اهتماماته منذ يونيو 1967 إلى أن حدثت الوفاة. كان ذلك همه الذي لا يعلوه اهتمام، لذلك ظلت المعركة نصب أعيننا في تلك اللحظة، ونحن نقرر كيف تسير الأمور بعد رحيله.ولم يكن من الملائم، ولا من المناسب وطنياً، ولا معنوياً، أن نجعل القوات المسلحة تلتفت إلى الخلف، إذا اشتعلت معارك الخلاف على من يخلف جمال عبد الناصر، ولم يكن أمامنا إلا أن تبقى عين القوات المسلحة مصوبة فقط إلى الأمام، في اتجاه سيناء، نحو مهمة وحيدة هي استعادة الأرض المحتلة.نعي محيي الدين
أول مظاهر «البلبلة» جاء مع ما نشرته جريدة «الأهرام» صباح السبت 30 سبتمبر 1970، وهو اليوم السابق على تشييع جنازة الزعيم الراحل. نشرت في إحدى صفحاتها الرئيسة وداخل «برواز» نعياً من زكريا محيي الدين، ورثاء منه وحده، وليس ضمن مجموعة أعضاء مجلس قيادة الثورة، وكان ذلك أمراً مثيراً لتساؤلات وأقاويل، وتخمينات لا ظل لها من الحقيقة.وأسجل هنا أن زكريا محيي الدين شخصية محترمة، وكان شغل سابقاً موقع رئيس الوزراء، وكان نائباً لرئيس الجمهورية، وهو معروف بقدراته وكفاءته في الإدارة، وكان وزيراً للداخلية لفترة طويلة، وحظي على الدوام بتقدير واحترام من رجالات الإدارة، وبعض الضباط الأحرار، ولا يوجد ما يمس سمعته على المستوى الشخصي. من هنا، كان من الطبيعي أن يثير التركيز عليه، وعلى البيان الذي أصدره ينعى فيه عبد الناصر، تساؤلات الناس وتخميناتهم، وبرز في أوساط سياسية واسعة السؤال: هل من المحتمل أن يترشح زكريا محيي الدين رئيساً للجمهورية؟ما زاد الطين بلة، ووسع من نطاق «البلبلة» أن التلفزيون فعل الأمر نفسه، وركز على زكريا محيي الدين تركيزاً كبيراً أثناء إقامة صلاة الجنازة على جثمان عبد الناصر. كذلك في أثناء عملية الدفن، لم نكن وحدنا المسؤولين عن اختيار أنور السادات رئيساً خلفاً لعبد الناصر، ويشار هنا إلى أن الأستاذ محمد حسنين هيكل كان في تلك الأثناء وزيراً للإعلام وهو بهذه الصفة المسؤول عن التلفزيون، الذي أبرز مشاركة زكريا محيي الدين في الجنازة، وفي الوقت كان هو نفسه رئيس تحرير جريدة «الأهرام»، التي أبرزت نعي محيي الدين، ما يفيد مسؤوليته عن إبرازه أيضاً على صفحاتها.ولا بد من أن أشير هنا إلى أن صدى هذا في القوات المسلحة كان قوياً للغاية، حتى أنني أستطيع أن أقول من موقع الرؤية القريبة، إن الجيش تبنى في هذا التوقيت مسألة ترشيح زكريا محيي الدين موقع رئيس الجمهورية، وتحوّل الأمر داخل القوات المسلحة إلى اتجاه عام، ولعلي أضيف أن المخابرات العسكرية وتحت تأثير هذا الإحساس أجرت استطلاع رأي في صفوف القوات المسلحة كانت نتيجته لصالح زكريا محيي الدين.ومع أن محمد حسنين هيكل نفى بعد ذلك علاقته بنشر نعي زكريا وألصقه بممدوح طه، رئيس قسم الأخبار في جريدة «الأهرام» آنذاك، إلا أن المسألة أصبحت أكثر تعقيداً، وطلب عدد من كبار ضباط القوات المسلحة من الفريق أول محمد فوزي القائد العام أن يتحرك للاستيلاء على السلطة تخليصاً للبلاد من بلبلة، وأزمة لا تحتملها الظروف، ولا تتحملها التحديات، ورصدنا اتصالات بين بعض الوزراء السابقين وبين عدد من رؤساء الدول الذين شاركوا في تشييع الجنازة، بغرض حملهم على التدخل لتأييد زكريا محيي الدين، وطرح في هذا الإطار اقتراح بعقد لقاء منفرد بينه وبين بعض هؤلاء الرؤساء، فأفشلنا من ناحيتنا هذه العملية.إلى جانب كل ما ذكرته، شهدت تلك الأيام تطوراً مهماً جداً كان له أثر كبير في قرارنا بالإسراع إلى تنصيب أنور السادات رئيساً للجمهورية. كنا في اجتماع مع السادات في قصر العروبة بمصر الجديدة، وأثناء ذلك دخل السكرتير ومعه مغلف باسم أنور السادات ففتحه الأخير في حضورنا، فوجد فيه مذكرة مكتوبة على الآلة الكاتبة، وهي عبارة عن أربع صفحات أو أكثر، تتضمن المطالبة بإحياء مجلس قيادة الثورة، والعمل بمبدأ القيادة الجماعية في إطار المتبقين على قيد الحياة من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وطلبت المذكرة أيضاً إجراء مقابلة جماعية مع السادات.الاتحاد الاشتراكي
تناقشنا في الموضوع واتفق الجميع على رفض المقابلة الجماعية، وقال السادات: إذا كنت سأقابل أحداً منهم، فلن يكون غير عبد اللطيف البغدادي، ومنفرداً. كان من بين الموقعين عليها السادة: زكريا محيي الدين، وعبد اللطيف البغدادي، وكمال الدين حسين، وحسن إبراهيم، وكانت تطلب أولاً، تشكيل جمعية وطنية عن طريق الانتخاب في مدة لا تزيد على ستة أشهر، تكون مهمتها إقرار نظام الحكم في مصر، ولها أن تقرر ما تراه من تنظيمات ومؤسسات تكون لازمة لتحقيق الديمقراطية في مصر. ولم يكن التسليم بما جاء في هذه المذكرة يعني إلا أمراً واحداً هو إلغاء دولة جمال عبد الناصر، وإلغاء المؤسسات الحزبية والتشريعية القائمة، ما يعني أن نترك البلد يدخل إلى المجهول.وكان غريباً، بل ومستفزاً أن يأتي بعد ذلك من يقولون لنا: ألغوا الاتحاد الاشتراكي، ولجنته المركزية، ولجنته التنفيذية العليا، وألغوا مجلس الأمة، وألغوا مجلس الوزراء، وتعالوا نشكل «جمعية وطنية»، توجد لنا بعد ستة أشهر نظاماً جديداً، كأنهم يريدون فرض قيادة جديدة تكون امتداداً للمجلس السابق للثورة، وإلغاء كل ما هو قائم. وكان واضحاً أن مذكرة المتبقين من أعضاء مجلس قيادة الثورة يتعاملون مع كل ما تركه عبد الناصر على أنه غير صالح للاستمرار.وسط تيار غالب في البلد يطالب ويلح في أننا «هنكمل المشوار»، باستمرار خط عبد الناصر، ومبادئه، وسياسته، ومسيرته، تخرج علينا هذه «المذكرة» بإلغاء كل ما هو قائم، والبحث عن «نظام جديد» تضعه «جمعية وطنية» منتخبة! بل إن «المذكرة» أغفلت المعركة، ولا شك في أن الخوض في انتخاب «جمعية وطنية» تضع خلال ستة أشهر قواعد النظام الجديد، كان سيأخذ البلد في اتجاه بعيد عن المعركة، والتي بدا من خلال مذكرتهم هذه أنها ليست واردة في حسابات أحد من أصحابها.لهذه الأسباب كان طبيعياً أن يكون قرارنا رفض مذكرة أعضاء مجلس قيادة الثورة، والاعتراض على كل ما جاء فيها. وأعترف هنا أن هذه المذكرة كانت واحدة ضمن عوامل رئيسة أخرى جعلتنا نعمل على سرعة الترشيح والاستفتاء على السادات، وهنا نقطة في منتهى الأهمية، أقولها بوضوح ومن دون تردد، إذا كنا نحن أخطأنا في الإسراع بطرح اسم السادات على الاستفتاء الشعبي، من ثم تنصيبه رئيساً للبلاد، فلست أعفي آخرين كثيرين شاركونا الخطأ، بل إن بعضهم، ومن بينهم أعضاء مجلس قيادة الثورة، كان أحد الضغوط التي دفعتنا دفعاً إلى ذلك.وأحسب أن مثل هذه المذكرة، لو أنها كانت بناءة، ولو أنها جاءت لتدعو إلى توحيد القوى الوطنية، ولو أنها كانت تناصر العمل الثوري لأجل استمرار خط جمال عبد الناصر، ولو أنها أعطت الأولوية اللازمة لمعركة التحرير، لو أنها اشتملت على ذلك لكانت التقديرات اختلفت، وكان وجه التاريخ تغير.